بعد مخططات الإخلاء وعمليات الحصار الخانق للمدن والبلدات السورية والهجمات المستمرة عليها، يحرص النظام السوري وروسيا على الترويج لمناطق المصالحات على أنها آمنة ومناسبة لعودة النازحين السوريين. ومن المفارقات أن النظام السوري والقوات الروسية كانا ولا يزالان السببين الرئيسين وراء نزوح ملايين السوريين. وتتركز كل جهودهم ومساعيهم على عقد مؤتمرات وندوات لمحاولة إقناع المجتمع الدولي بأن مناطق المصالحات نماذج مثالية، يتم تنفيذها في كل أنحاء سوريا، كما يزعم أنها ستؤدي إلى الاستقرار والاستعداد لعودة النازحين، وهي ورقة يستخدمونها لتشجيع التطبيع مع النظام وبدء إعادة الإعمار.
تستمر ادعاءات روسيا بأنها هي الضامن للسلام في سوريا، إلا إنها تظل أحد المعتدين، وقد فشلت بشكل صارخ في ضمان تنفيذ ما يسمى باتفاقات المصالحات. في حين، يستمر النظام السوري في انتهاكاته ومضايقته للمدنيين واعتقالهم بشكل تعسفي، بمن فيهم أولئك الذين وقعوا اتفاقيات التسوية، وملاحقة الشباب وتجنيدهم قسراً في جيشه. وتحتل مناطق المصالحات، مثل درعا والغوطة الشرقية، المرتبة الأسوأ من حيث الظروف المعيشية والأمنية.
وأدى تدهور الأوضاع إلى استمرار موجات النزوح الصامت من درعا إلى الشمال السوري، مما يؤكد استحالة تحقيق شروط العودة الآمنة والطوعية والكريمة للنازحين السوريين. وتعتبر درعا اليوم مثالاً بارزاً على أن روسيا هي الجاني الذي ارتكب جرائم القتل والتهجير القسري ضد السوريين، ولا يمكن أن تكون ضامناً لأي سلام أو استقرار في سوريا.
عملت روسيا على منح النظام السوري من خلال اتفاقيات المصالحات، التي توسطت فيها وتمت برعايتها وضماناتها، فرصة ذهبية لا تفوّت للتخلص من خصومه في مناطق المصالحات، ما شجع النظام على استمرار حملات المداهمات والاعتقالات والاغتيالات بشكل يومي، الأمر الذي ينفي كل مزاعم روسيا بأن نماذج المصالحات هي نماذج مثالية، وتجلب الاستقرار وتعزز الأمن.
كما استخدم النظام السوري شكلاً من أشكال العقاب الجماعي من خلال قطع الخدمات عن المحافظة بدلاً من زيادتها، على عكس ما وعد به. ومنذ دخول درعا في اتفاقية المصالحة، كان انعدم الشعور بالأمان مستمراً وحتى عمليات القمع لم تتوقف، ووفقاً لتقريرنا “تقرير تطبيع الرعب“، فإن 94% من القاطنين في مناطق المصالحات لا يشعرون بالأمان.
وفي وقت سابق من شهر آذار، قتلت قوات النظام 33 شخصاً من المدنيين والمقاتلين السابقين من المعارضة المسلحة من أبناء محافظة درعا، من بين الضحايا طفل وامرأة. وكان من بينهم أيضاً شاب قُتل تحت التعذيب في سجون قوات النظام، فيما قُتل 28 آخرون في عمليات اغتيال واستهداف مباشر بالرصاص.
برز في درعا قاتل “خفي” ما تزال هويته مجهولة، نفذ سلسلة من عمليات الاغتيال، طالت مدنيين ونشطاء وإعلاميين ومقاتلين سابقين في المعارضة، فيما سادت حالة من عمليات الخطف والاختفاء القسري. وكان من ضحايا عمليات الاغتيال، الشاب حيدر عبد الله السلامات أحد عناصر فصائل المعارضة سابقاً، الذي تم اغتياله بعدة طلقات على يد مجهولين في مدينة الحراك شرقي درعا. وكان السلامات قد وقع على اتفاقية التسوية وحصل على بطاقة تسوية، بعد سيطرة قوات النظام على الجنوب السوري عام 2018. وقبل عامين تقريباً، كان قد تعرض لمحاولة اغتيال أدّت إلى إصابته بجروح خطيرة جداً.
كما قُتل قصي حسين الزعبي على يد مجهولين في بلدة اليادودة بريف درعا الغربي، كان الزعبي عنصراً سابقاً في صفوف فصائل المعارضة. وبعد تسوية وضعه، حصل على بطاقة تسوية ولم ينخرط في صفوف التشكيلات العسكرية التابعة للنظام وروسيا.
وكمثال على حالات الاعتقال التعسفي والقتل تحت التعذيب، حادثة الشاب ياسين غازي أبو ركبة، الذي كان معتقلاً قبل 4 سنوات في سجن صيدنايا، ومنذ أيام سلمت قوات النظام جثته لأهله، بعد أن قُتل تحت التعذيب. كان أبو ركبة منشقاً عن قوات النظام السوري، وسلّم نفسه في عام 2018، للاستفادة من “العفو العام” عن المنشقين الصادر عن بشار الأسد. هذه الحادثة من الحوادث الكثيرة، التي تمثل شهادة واضحة على عدم جدية وفعالية الضمانات الروسية في ترسيخ السلام والاستقرار في المنطقة.
وفي ٢٤ أيار ٢٠٢٢، قُتل المدني عمار أمين العبود (18 عاماً)، برصاص مسلحين مجهولين في قرية النعيمة بريف محافظة درعا الشرقي، الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR).
ومنذ بداية عام 2022 وحتى شهر أيار، أدّت عمليات الاغتيال والاعتقال والإخفاء والتغييب القسري إلى مقتل أكثر من 100 شخص بينهم ثلاثة أطفال، إضافةً إلى امرأة ورجل تحت التعذيب. كما وثق مكتب توثيق الشهداء في درعا ما لا يقل عن 65 معتقلاً ومختطفاً، مشيراً إلى تورط أربعة أفرع أمنية في عمليات الاعتقال، على حسب التوزع التالي، 29 معتقلاً لدى فرع الأمن الجنائي، 17 معتقلاً لدى شعبة المخابرات العسكرية، 11 معتقلاً لدى فرع الأمن السياسي، 8 معتقلين لدى فرع المخابرات الجوية.
واستهدفت عمليات الاغتيال أيضاً أبرز قادة الفصائل المعارضة، منهم أدهم الكراد الذي قُتل في تشرين الأول 2020، وكان يشغل منصب قائد كتيبة الهندسة والصواريخ وعضواً في لجنة التفاوض عن مدينة درعا البلد مع الضباط الروس. بعد أن أجرى تسوية لوضعه، رفض الانضمام إلى أي مجموعة تابعة للنظام السوري أو روسيا.
كما استهدفت الاغتيالات عدة أعضاء من لجان التفاوض المدنية، من بينهم عضو لجنة المنطقة الغربية من درعا، الشيخ أحمد البقيرات من بلدة تل شهاب، بتاريخ 9 كانون الأول 2021، وياسر الدنيفات الملقب بــ “أبو بكر الحسن” بتاريخ 14 تموز 2020، وكان يشغل منصب المتحدث باسم “جيش الثورة” أحد أكبر الفصائل المعارضة سابقاً العاملة جنوب سوريا.
كما تعرض أعضاء اللجنة المركزية للتفاوض في ريف درعا الغربي في 25 أيار 2020، لكمين مسلح أثناء عودتهم من اجتماع واتفاق مع الضباط الروس، ما أسفر عن مقتل ثلاثة من أعضاء اللجنة وهم قادة التشكيلات المعارضة سابقاً، وإصابة ثلاثة آخرين، منهم قيادي بالمعارضة وأبرز أعضاء اللجنة محمود البردان أبو مرشد، وأبو علي مصطفى التابع للواء الثامن الروسي، الذي أسسته روسيا كفرقة فرعية للفيلق الخامس وضمت في صفوفه مجموعات من المعارضين السابقين.
وكان مكتب توثيق الشهداء في درعا، وقد وثق خلال العام 2021 فقط، ما مجموعه 508 عملية ومحاولة اغتيال، أدت لمقتل 329 شخص وإصابة 135 آخرين، بينما نجى 44 شخص من محاولات اغتيال. وهذا يدل على عدم وفاء النظام بوعوده ومدى جديته في اتفاقيات المصالحة وفشله في تحقيقها، وأن الاغتيالات الأخيرة لم تكن مجرد حالة استثنائية، بل هي جزء من الوضع الطبيعي للواقع القاسي في مناطق سيطرة النظام.
توزعت عمليات ومحاولات الاغتيال جغرافياً بشكل متباين للغاية، في درعا 317 عملية ومحاولة اغتيال، في ريف درعا الغربي لوحده، ما نسبته 62.5 % من إجمالي العمليات والحوادث الموثقة، بينما بلغ العدد 150 في ريف درعا الشرقي ما نسبته 29.5 %، وفي مدينة درعا 41 ما نسبته 8 % من إجمالي العمليات والحوادث الموثقة. وقعت غالبية عمليات ومحاولات الاغتيال باستخدام الأسلحة النارية الخفيفة، منها 401 عملية ومحاولة اغتيال من خلال إطلاق النار المباشر، بينما تمت 31 عملية من خلال الإعدام الميداني المباشر، بينما تم توثيق 56 عملية باستخدام العبوات الناسفة والأجسام المتفجرة، و20 عملية من خلال الهجوم بالقنابل اليدوية.
كما وثق مكتب توثيق الشهداء في درعا اعتقال قوات النظام لـ 359 شخص، تم الإفراج عن 144 معتقل منهم في وقت لاحق من العام، بينما توفي 2 منهم تحت التعذيب أو في ظروف الاعتقال غير القانونية في سجون النظام. شكلت هذه العمليات واحدة من أبرز الانتهاكات المستمرة، التي ارتكبتها قوات النظام خلال العام 2021، وطالت كلاً من المدنيين ومقاتلي فصائل المعارضة السابقين في مناطق المصالحات، التي تفتقر إلى الأمن والأمان، وكانت أكبر دليل على زيف وعود النظام.
مع غياب سلطة الدولة العادلة لتحقيق المحاسبة القانونية، انعكست هذه الأوضاع المتردية على كامل المنطقة الجنوبية، وحرمت الأهالي من العيش بأمان واستقرار. بالتأكيد لن يكترث النظام السوري ولن يسعى لتحسين الأوضاع، الذي كان هو المسبب لها، ولن تبذل روسيا أي جهود لخلق بيئة آمنة ضرورية لعودة اللاجئين السوريين. في وقت، كانت أكبر داعم لهذه الأوضاع والتهديدات المستمرة للمدنيين، ولعبت دوراً رئيسياً في تهجيرهم.
هناك سبب جوهري يمنع المهجرين من التفكير في العودة، خاصةً في ظل غياب بيئة آمنة وضمانات دولية قوية، يعود ذلك إلى السياسات والممارسات الأمنية للنظام، التي تكاد تكون متطابقة في جميع المناطق التي يسيطر عليها. عند سؤال سكان تلك المناطق عن شعورهم بالأمن والأمان، أشار 57٪ من المشاركين في تقريرنا “تطبيع الرعب” إلى أن سلطة الأجهزة الأمنية كانت أحد أهم أسباب عدم شعورهم بالأمان، وترتفع هذه النسبة إلى 90% في مناطق المصالحات، وهذا دليل واضح على فشل اتفاقيات المصالحات.
ولن يزول هذا الشعور إلا بزوال الأسباب التي أجبرت السوريين على الهروب من منازلهم. ولا وجود لمكانٍ آمنٍ في سوريا للعودة ما لم يتم إخضاع النظام السوري وحلفائه وخاصة الحليف الروسي للمساءلة القانونية عن جميع الجرائم التي ارتكبوها وما زالوا يرتكبونها في سوريا.
وتمثل محاسبة الجناة على جرائمهم وانتهاكاتهم إحدى أهم الركائز الأساسية لخلق بيئة آمنة في سوريا، وطالما يستمر النظام السوري وروسيا في اتباع سياساتهما بلا هوادة، فلن تكون هناك محادثات مثمرة حول عودة النازحين السوريين أو خلق بيئة آمنة أو التوصل إلى حل سياسي شامل. إنه لأمر لا يمكن فهمه، أن العالم الذي يرى روسيا كمعتدية في أوكرانيا، قد يعتبرها ضامناً لأي جهود سلام في سوريا، وطالما أنه لا يتم مساءلة ومحاسبة روسيا على جرائمها، فلن تتوقف لا في سوريا ولا في أوكرانيا، بل ستتوسع سيطرتها وتمتد نفوذها إلى مناطق أخرى أيضاً.