أدلى رئيس المفوضية فيليبو غراندي بتصريحات فاضحة خلال مهمته الأخيرة إلى سوريا.
في البداية، اعترف بشكلٍ صريح أنّ المفوضية تنسق مع نظام بشار الأسد بشأن عودة النازحين السوريين وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين من الخارج، ثم ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث عبّر بشكلٍ صريح عن إيمانه بالنظام السوري لضمان الأمن للعائدين.
جاءت هذه التصريحات خلال الأسبوع الذي ارتكب فيه النظام السوري، بمساعدة حلفائه الروس، مجزرة أخرى بحق المدنيين السوريين في شمال غرب سوريا، حيث تعرَّض سوق مزدحم في مدينة أريحا، مجاور لطريق مزدحم بالأشخاص الذين يشترون طعامهم كما يمر منه أطفال المدارس بالحافلات إلى مدارسهم، لهجوم بالصواريخ، ولقي 13 شخصاً مصرعهم على الفور، بينهم أربعة أطفال ومعلمهم، فيما أصيب العشرات، بعضهم في حالة حرجة.
في نفس اليوم، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً جمع المزيد من الشهادات من العائدين الذين تحدثوا عن الإخفاء القسري والتعذيب والاعتقال التعسّفي وقتل أولئك الذين تم تضليلهم للاعتقاد بأنهم سيكونون آمنين للعودة، أو ببساطة أولائك الذين أجبروا على العودة لأنه لم يكن لديهم خيار آخر بسبب الظروف القاسية في النزوح.
جاء التقرير في أعقاب جهود توثيق مماثلة من قبل منظمة العفو الدولية، وتقارير متعددة حول هذا الواقع من الرابطة السورية لكرامة المواطن، والشبكة السورية لحقوق الإنسان وغيرها.
كيف كان من الممكن إذن لفيليبو غراندي أن يقول مثل هذه الأشياء الفاضحة في ظلّ تقصير صارخ في واجب رعاية المهجرين السوريين، الذين هم الفئة التي تم تكليف المفوضية بحمايتهم ودعمهم؟ هل من الممكن أن نتخيل لقاء الرئيس السابق للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ساداكو أوغاتا مع رادوفان كارادزيتش في آب 1995، بينما كانت القوات الصربية البوسنية تنفذ المذبحة الشائنة في سوق ماركالي في سراييفو، وإصدار بيان كيفية تنسيق عودة البوسنيين النازحين مع كارادزيتش وكيف تعمل قواته على ضمان أمنهم.
من المستحيل أن نتخيل ذلك، وخصوصاً أنّ رد المجتمع الدولي على تلك المجزرة كان بإطلاق العنان للقصف على قوات صرب البوسنة مما أجبرهم في نهاية المطاف على التوقيع على اتفاق دايتون للسلام.
نحن بدورنا لا نتوهم أنّ المجتمع الدولي سيأتي بطريقة مماثلة لحماية ومساعدة السوريين الذين يعانون من الفظائع على يد نظام الأسد، كما أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تفشل فيها المفوضية السامية بشكلٍ صارخ في أداء واجبها لإبلاغ اللاجئين السوريين بشكلٍ صحيح بالواقع الذي ينتظرهم إذا عادوا إلى المناطق التي يسيطر عليها الأسد، فقد حذرنا مراراً وتكراراً من مثل هذه الإخفاقات.
منذ آذار 2019، أبلغنا عن العرض المُضلّل للمفوضية لأعداد العائدين لإخفاء النزوح المستمر الذي يرتكبه النظام السوري، كما أصدرنا في تشرين الثاني 2019 إحاطةً توثق فشل المفوضية السامية في التصرّف وفقاً لاستراتيجياتها الخاصة أو واجبها في رعاية المهجرين السوريين بعدة طرق، منها:
- عدم التعامل بشكل صحيح مع المهجرين السوريين عند وضع استراتيجية العودة والعتبات والبرامج؛
- تغيّر كبير في عتبات الحماية واستراتيجية العودة دون استشارة أو وجود قاعدة أدلة للقيام بذلك أو حتى تفسير معقول للسبب الذي يجعل خفض العتبات يفيد المهجرين السوريين؛
- عدم تسليط الضوء على القيود والمخاوف المتعلقة بالحماية والثغرات في الوصول والحيز التشغيلي للفاعلين السياسيين والدول من أجل توضيح الخطاب والسياسات المتعلقة بالعائدين؛
- عدم توصيل معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب للعائدين المحتملين حول الظروف، وانعدام الأمن والقيود المفروضة على الوصول، مما يؤدي إلى قرارات عودة غير مدروسة وبالتالي لا يمكن اعتبارها طوعية؛
- اتصالات غامضة، وتسهيل عمليات العودة، ومقترحات المشاريع التي تشجع على العودة المبكرة لأوانها في بيئة تنعدم فيها أدنى درجات الحماية.
نحن ندرك بالتأكيد أنه يتعين على المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووكالات الأمم المتحدة الأخرى “السير على الخط” لمواصلة العمل في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري.
نحن على وشك نشر تقرير يلخّص مقابلات مع حوالي 40 موظف حالي أو سابق في وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والسورية العاملة في المناطق التي يسيطر عليها الأسد حيث أن هناك إجماعاً عارماً على أنّ النظام السوري يسيطر بدرجات متفاوتة على هذه المؤسسات وعملها من خلال تعيينات موظفيها، التأثير على القرارات المتعلقة بالمستفيدين، أين وكيف يتم توزيع المساعدات، وكيف لا يتم الإبلاغ عن الفساد والتجاوزات.
ومع ذلك، فإنّ التصريحات الأخيرة من رئيس المفوضية السامية فيليبو غراندي تتجاوز الفشل السابق في إبلاغ اللاجئين السوريين والمجتمع الدولي بالواقع في المناطق التي يسيطر عليها الأسد في سوريا، أو اعترافه بأنّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لا يمكنها الوصول إلى الغالبية العظمى من العائدين، بما في ذلك معسكرات الاعتقال حيث تم نقل العائدين من الركبان وآخرين ولم يُر بعضهم مرة أخرى، وتتجاوز هذه التصريحات فشل غراندي في ذكر حالات الاخفاء القسري المستمرة والاعتقالات التعسفية والتجنيد القسري للأشخاص في الغوطة الشرقية خلال زيارته الأخيرة هناك.
إذن، السؤال هو: إلى أي غاية كان حديث غراندي عن التنسيق مع النظام السوري بشأن عودة النازحين وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين، أو تأكيده على أن “الحكومة” هي التي من المفترض أن “تضمن الأمن” للعائدين؟ ما الذي كان يحاول تحقيقه؟ مصلحة من يخدمون؟ هي بالتأكيد ليست مصلحة 13 مليون مهجرون سوري.
بالنسبة لنا، تبدو كلمات غراندي بمثابة رأس رمح الجهود المبذولة للتطبيع مع نظام الأسد، وهو جهد يراقبه المهجرون السوريون برعب.
نحن ندرك أنه من السهل تجاهل رعب وصدمة ملايين السوريين بالنسبة لمعظم صناع القرار الذين ثملوا من كأس السيادة المفترضة للسياسة الواقعية ونسوا مفاهيم العدالة والحقوق.
ومع ذلك، يجب أن نطرح السؤال التالي: ما الذي يفكر به أولئك الذين يعتقدون أن التطبيع مع الأسد هو الحل للكابوس السوري نتيجة لذلك؟ هل يمكنهم بالفعل تخيّل سيناريو يعود فيه 13 مليون مهجّر سوري، أو حتى أقل من نصف هذا العدد، أي حوالي 6 ملايين، إلى المناطق التي يسيطر عليها الأسد مع “الحكومة” التي عذبتهم، وقصفتهم بشكل عشوائي، وقصفتهم بالغازات والأسلحة الكيماوية والتي تستمر في اعتقال وتعذيب عشرات الآلاف من الأبرياء، وتدنيس قبورهم؟ هل هي “ضمان أمنهم”؟ ألا يستطيعون أن يروا من خلال مثال درعا كيف يتعامل النظام السوري حتى اليوم مع من يعتبرهم غير موالين؟ هل يعتقدون حقًا أنّ هذا لن يؤدي إلى موجة نزوح ضخمة أخرى والمزيد من إراقة الدماء؟ أم أنهم في الواقع يقتنعون أخيراً بمفهوم الأسد عن “سوريا المفيدة والمتجانسة”، حيث سيصبح تهجير 13 مليون سوري، وهم غالبية سكان البلاد، دائماً؟
نحن حقيقة نأمل ألا يفعلوا ذلك وسنواصل العمل للتأكّد من أنّ كل صانع قرار على دراية بالعواقب الوخيمة لمثل هذا التفكير.
إن الحديث الوحيد الممكن حول عودة آمنة وطوعية وكريمة هو ذلك الذي يأتي بعد بيئة آمنة يحددها السوريون أنفسهم ويتم إنشاؤها في كل سوريا، في ظل ضمانات دولية قوية ومتينة.
هذه هي حقوقنا غير القابلة للتصرف، والتي لن نتنازل عنها أبداً، وهذه أيضاً هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد من خلالها أمل في نوع من السلام والاستقرار الدائمين في سوريا، و كل ما عدا ذلك هو سراب سام سيعود ليطاردنا جميعاً لعقود قادمة.
أما بالنسبة لفكرة أنّ النظام السوري هو الذي “يضمن أمن” جميع السوريين، والذي روّج له غراندي، فقد رأى العالم كله صدقه في أريحا قبل أيام. حيث خفض النظام، من خلال أفعاله الإجرامية، عدد السوريين الذين يحتاج إلى ضمان أمنهم بمقدار 13، بينهم أربعة أطفال، وسيواصل القيام بذلك، إذا ما تم السماح له بذلك. هذه هي الحقيقة المروعة التي لا يمكن طمسها بمقاطع فيديو “قصة بشرية” أنيقة وشعارات فارغة.
مجلس أمناء الرابطة السورية لكرامة المواطن:
مازن كسيبي
هدى الأتاسي
فادي نزهت
عامر زيدان
مؤمنة أبو مستو
نور حيمور
مضر الفرحان
أسامة الشيخ علي
وسيم الحاج
حومد حومد
هالة الغاوي
حمزة العمر
رانيا المدلجي
منير السيال
صورة الغلاف: وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد (إلى اليمين) يلتقي بالمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي في العاصمة دمشق ، في 17 أكتوبر / تشرين الأول 2021 [لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية AFP]