هيا الأتاسي
في 21 آب / أغسطس 2013، شن النظام السوري واحدة من أعنف هجماته الكيماوية على مناطق مكتظة بالسكان في الغوطة الشرقية بريف دمشق. وأطلق صواريخ أرض – أرض تحتوي على غاز السارين في الساعات الأولى من الصباح بينما كان الناس نائمين. وقدرت حصيلة القتلى ما بين 1400 و1700 قتيل، ناهيك عما يقرب من 6000 شخص يعانون من مشاكل في التنفس. كان هذا أخطر هجوم كيماوي في العالم منذ هجوم صدام حسين الكيماوي على أكراد العراق في حلبجة عام 1988.
خلصت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى وقوع هجوم كيماوي ضد المدنيين على نطاق واسع في الغوطة في عام 2013 وتمكن الجناة من الوصول إلى مخزون الأسلحة الكيميائية للجيش السوري. بالإضافة إلى ذلك، أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أيضًا استخدام غاز السارين في الغوطة.
هذه الجريمة الفظيعة هي انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني وجريمة حرب، على الرغم من حقيقة أن سوريا وقت الهجوم الكيميائي لم تكن عضوا في اتفاقية الأسلحة الكيميائية. ومع ذلك، فإن الهجوم الكيميائي على الغوطة غير قانوني بموجب بروتوكول جنيف للغاز لعام 1925. بالإضافة إلى ذلك، أكدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بوضوح أنه “ظهر بلا منازع إجماع عام في المجتمع الدولي على مبدأ حظر استخدام الأسلحة [الكيميائية] أيضًا في النزاعات المسلحة الداخلية”.
ومع ذلك، فإن الإدانة الدولية للهجمات الكيماوية لم تمنع النظام من ارتكاب المزيد من الجرائم ضد السوريين. في الواقع، لم تردع أي تنديدات دولية ـ والتي لم يتبعها أي عمل ملموس ـ النظام عن ممارسة قمعه الممنهج للشعب السوري.
حاصر النظام السوري وحلفاؤه الغوطة الشرقية لما يقرب من خمس سنوات. وطوال هذه السنوات، استخدم النظام جميع أساليب القمع وجرائم الحرب لإجبار المنطقة على الاستسلام، بما في ذلك التجويع وحظر الإجلاء الطبي والهجمات الكيماوية والقصف. وقد أودى ذلك بحياة 12783 مدنياً قتلوا في الغوطة الشرقية وما حولها من آذار 2011 إلى شباط 2018، بينهم 1463 طفلاً و1127 امرأة. وتشير التقديرات إلى نزوح أكثر من 90 ألف شخص من الغوطة الشرقية منذ مارس 2018، مع نزوح أكثر من 50 ألفًا إلى الشمال ومعظمهم إلى إدلب.
ويبقى السؤال: هل يستطيع أبناء الغوطة الشرقية العودة إلى ديارهم في ظل الوضع الراهن؟ لا لا يستطيعون. وهذا هو السبب.
بعد انهيار الغوطة الشرقية تحت وطأة القصف والحصار الشديد لقوات النظام السوري وحلفائه، استسلم المقاتلون في المنطقة وفضل نحو 90 ألفًا منهم إخلاء المنطقة على العيش تحت حكم النظام السوري.
يشير هذا إلى أي درجة يفتقد فيها السوريون الثقة بالنظام. عند سؤالهم عما إذا كانوا سيعودون إلى المناطق الخاضعة لسيطرته، ذكر 81٪ من المهجرين السوريين الذين شملهم الاستطلاع في تقرير “نحن سوريا” الأخير الصادر عن الرابطة السورية لكرامة المواطن أن شرطًا أساسيًا لعودتهم هو رحيل النظام القائم (بما في ذلك الشخصيات المتورطة في عمليات وانتهاكات الأجهزة الأمنية، وشبكات الفساد التي نشأت في ظل النظام).
ويفسر ذلك عدم التزام النظام السوري بأحكام الاتفاقات التي ضمنت وقف التجنيد العسكري القسري، مثل “اتفاقية المصالحة” للغوطة الشرقية. على العكس من ذلك، استمر النظام السوري في ممارساته القمعية وفشل في بث الشعور بالأمن في المناطق التي استعاد السيطرة عليها. وعند سؤالهم عن أهم شروط العودة، أفاد 58٪ من المهجرين السوريين أنّ إلغاء التجنيد الإجباري بجميع أشكاله هو شرط أساسي للعودة، بينما أراد حوالي 80٪ منهم الإفراج الكامل والغير مشروط عن جميع المعتقلين الذي تم اعتقالهم بتهمة المعارضة أو اتهامهم بالأنشطة أو المشاعر المناهضة للنظام، وكشف مصير المختفين قسريًا وإطلاق سراحهم أو تسليم جثث المتوفين في السجن لذويهم. والأهم من ذلك، 83٪ من المهجرين السوريين الراغبين في العودة اختاروا التفكيك الكامل للأجهزة الأمنية الحالية وإصلاحها بما يتوافق مع القوانين التي من شأنها أن “تضمن أن يتركز أداؤها على وظيفة أمنية داخلية تضمن أمن المواطنين وحماية الناس وفقاً للقوانين؛ دون أي امتيازات أو انتهاكات أو تعَدٍّ على باقي الجهات الحكومية ودور الحكومة في بناء المجتمع”.
منذ اندلاع الصراع السوري، مارس النظام السوري كافة أشكال الانتهاكات والقمع تجاه الشعب السوري، مما دفع أكثر من نصف السكان إلى النزوح الداخلي والخارجي. حقيقة أن النظام السوري لم يظهر أي نوايا للإصلاح، أو حتى البدء في كبح الممارسات الإجرامية لقواته، يشير إلى عدم وجود بيئة آمنة لعودة كريمة وطوعية للسوريين إلى ديارهم في سوريا.
كانت الهجمات الكيماوية على الغوطة الشرقية قبل سبع سنوات مجرد مظهر من مظاهر مدى استعداد النظام السوري للذهاب باستخدام جمي ع الوسائل المتاحة للسيطرة على الأراضي – بغض النظر عن التكلفة البشرية. وهذا هو السبب الرئيسي لعدم تمكن المهجرين السوريين من العودة إلى سوريا ما لم تتم مساءلة وتفكيك الجهاز الأمني الذي أمر بهذه الجرائم ونفذها. أشار حوالي 83٪ من المهجرين السوريين الذين شملهم الاستطلاع في تقرير الرابطة إلى أن تفكيك وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية في سوريا شرط مسبق أساسي لأي عودة إلى ديارهم. وهذا مرتبط بشكل مباشر بانعدام الشعور بالأمن والأمان الذي يشعر به معظم السوريين في وجود النظام السوري
كان النظام هو المحرك الرئيسي للنزوح على مر السنين وبأشكال مختلفة. ومما يؤيّد ذلك استمرار النزوح حتى بعد أن سيطرته على معظم البلاد ضمن ما يسمى بـ “اتفاقيات المصالحة” – مثل تلك الموجودة في الغوطة الشرقية – التي فشلت في وقف القمع والاعتقالات والمضايقات، وكانت سبباً في دورات متجددة من العنف.
غالبية (56٪) ممن تمت مقابلتهم في تقرير الرابطة نزحوا من مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري أو فروا بينما كانت تلك المناطق تحت سيطرة قوات النظام خلال النزاع. ويشمل هذا العدد النازحين من ديارهم في المناطق التي يسيطر عليها جيش النظام وأجهزته الأمنية وكذلك من اضطروا إلى ترك منازلهم بعد ما يسمى باتفاقيات التهجير القسري بين فصائل المعارضة وقوات النظام كما في محافظات حلب في كانون الأول 2016، ودمشق في أيار 2017، وريف دمشق في موجات عديدة من نيسان 2017 حتى آذار 2018، وفي حمص في موجات عديدة من 2014 حتى 2018 ودرعا 2018.
إن السوريين لا يثقون بالنظام السوري وكافة مؤسساته، ويشككون في مصداقيته وصدقه. وإنّ النّظام السّوريَّ بسبب استمرار هجماته يعَدُّ الدافع الأساسيَّ لنزوح ما يقرب من 81٪ من المهجرين السوريين. بالنظر إلى حقيقة أن تحقيق العدالة والمحاسبة على الجرائم المرتكبة ليس في الأفق، فمن المستحيل على السوريين حتى التفكير في العودة إلى ديارهم في سوريا طالما أن مرتكبي هذه الهجمات المروّعة لا يزالون يسيطرون على البلاد.
حتى الأشخاص الذين أجبروا على العودة من النزوح إلى مناطق سيطرة النظام يفرون مرة أخرى، مستخدمين شبكات المهربين في محاولة للوصول إلى بر الأمان في البلدان المجاورة الأخرى وأوروبا وهذا ما ظهر في بحثنا السابق بوضوح. وبحسب التقرير السابق للرابطة “بين المطرقة والسندان”، فإن 68٪ من العائدين إلى سوريا ينصحون النازحين السوريين الآخرين بعدم العودة. ووثق التقرير أنه حتى العائدين من غير المنتمين إلى أي مجموعات معارضة للنظام السوري ما زالوا يتعرضون للاعتقال والانتهاكات الأمنية والابتزاز المالي.
من جهة أخرى، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 25 حالة اعتقال تعسّفي على الأقل في دمشق وريفها، بما في ذلك الغوطة الشرقية، في شهر أيار، فيما بلغ العدد في شهر حزيران وحده 112 معتقلاً. من المحتمل أن تكون الأرقام المبلغ عنها أقل من الأرقام الفعلية، حيث لم تصل جميع الحالات إلى منظمات التوثيق. أكثر من 40 غارة لقوات النظام على منازل سكنية في حيي “الحجرية” و “عبد الرؤوف” في مدينة واحدة فقط – دوما بريف دمشق – اعتقل خلالها قرابة 30 شاباً للالتحاق بصفوف جيش النظام. كما وقعت غارات مماثلة في أماكن أخرى، بما في ذلك غوطة دمشق.
وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يواصل النظام ملاحقة من أصلحوا أوضاعهم الأمنية في المناطق التي وقعت ما يسمى “باتفاقيات المصالحة” مع النظام، بما في ذلك في ريف دمشق. وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومنظمات حقوقية أخرى 684 حالة اعتقال تعسفي في دمشق ومحيطها منذ بداية العام الجاري.
كل هذا يوضح أنه بعد سبع سنوات على الهجوم الكيماوي الأكثر دموية على المدنيين في سوريا، لا يزال النازحون من الغوطة الشرقية بعيدين عن تحقيق العدالة للجرائم المروعة التي عانوا منها، وعن آفاق عودة آمنة وطوعية وكريمة إلى ديارهم. تعتبر هذه الذكرى بمثابة تذكير بالنضال الذي ينتظرنا لتحقيق الحد الأدنى من الشروط لمثل هذه العودة ومسؤولية المجتمع الدولي عن التمسك بقوانينه وقواعده من أجل الوصول إلى سلام دائم في سوريا.