مقدمة
ست سنوات مضت على التدخل الروسي في سوريا، وهو التدخل الذي تفضل روسيا والنظام السوري تسميته بـ “الحرب على الإرهاب”، والتي لم تكن في الواقع سوى حرب على السوريين أنفسهم. بعد فقدان النظام للسيطرة على معظم الأراضي السورية، كان النظام السوري حينها على وشك الانهيار. ومع ذلك، فقد أدى التدخل الروسي إلى تغيير جذري في ميزان القوى على الأرض وفي الجو.
وتحت أنظار العالم، قصفت القوات الروسية المدنيين في الغوطة وحمص ودرعا وحلب وإدلب وغيرها. وفي رسالة إلى الأمم المتحدة عام 2017، صرحت منظمة الخوذ البيضاء أن التدخل الروسي قتل 12 ألف مدني بينهم 380 طفلا. لا توجد اليوم بيانات موثقة حول هذا الرقم، لكنه بالتأكيد أعلى بكثير مما كان عليه في عام 2017. الآن وبعد 11 عامًا من الصراع، هناك حوالي 6.6 مليون لاجئ سوري هجروا من بلادهم، بينما نزح 6.2 مليون داخل سوريا حيث ارتفع حجم النزوح بشكل كبير منذ التدخل الروسي في سوريا.
بعيدًا عن جلب أي إحساس بالسلام والأمان لسوريا، أصبح من الواضح الآن أن الهدف الأساسي لروسيا في سوريا كان ترسيخ وجودها الجوي والبحري في المنطقة وتوسيع قواعدها العسكرية، وتحديداً قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية والمنشأة البحرية في طرطوس.
في شباط 2016، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إنشاء مركز المصالحة الروسي في سوريا، والذي تم إنشاؤه تماشياً مع الاتفاقات التي توصلت إليها روسيا والولايات المتحدة لتسهيل المفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة ولتنظيم عمليات تسليم المساعدات الإنسانية.
لكن من المفارقات أنه في الوقت الذي تم فيه إنشاء مركز المصالحة الروسية في قاعدة حميميم بهدف مفترض يتمثل في تسهيل المصالحة بين الجماعات المسلحة “التي لديها الاستعداد لوقف الأعمال القتالية والتفاوض من أجل عقد هدنة”، فقد ثبت عملياً أنه مجرد مسار موازٍ لعملياتهم العسكرية في سوريا لمساعدة النظام السوري في السيطرة على جميع المناطق التي كانت خارجة عن سيطرته. بعيدًا عن كونها وسيلة للمصالحة وتحقيق السلام، أدت هذه الاتفاقيات الموقعة بضمانات روسية إلى تهجير كامل لسكان سوريين من مدن ومناطق جوعى حتى الموت وأجبروا على توقيع اتفاقيات لم يحترمها النظام ولا حلفاؤه.
لطالما احتلت درعا أهمية إستراتيجية خاصة للنظام السوري وروسيا وإيران لأسباب عديدة. حيث أنها مهد الثورة وأحد أقوى معاقل النضال ضد النظام. الأهم من ذلك، أنها قريبة من إسرائيل والأردن، ولا سيما المعابر الحدودية مع الأردن التي تعتبر شريان الحياة الضروري للنظام.
تم التوقيع على أول اتفاق مصالحة في درعا عام 2018، والذي انتهك مرات كثيرة على مدى أربع سنوات. وتصاعدت عمليات القمع مع رفض أهالي درعا المشاركة في الانتخابات الرئاسية المعيبة التي أجريت في أيار 2021 لإعادة انتخاب بشار الأسد. عندما تم توقيع الاتفاقية في عام 2018، ادعى الروس أنهم ضامنون، لكنهم في الواقع لم يفشلوا فقط في ضمان تنفيذ الاتفاقية، ولكنهم أعلنوا أيضًا في عام 2021 أن هذه الاتفاقية لم تعد سارية لأن الوضع الراهن قد تغير. أما النظام السوري فلم يلتزم بوعوده أبداً واختار أن يواصل ممارساته الإجرامية المتمثلة في الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري ومحاصرة البلدات والقرى، ثم شن حملة عسكرية قاتلة على درعا البلد وقصف المدنيين بالأسلحة الثقيلة.
سواء في درعا أو في مناطق أخرى، كانت روسيا والنظام السوري يحاولان جاهدين الترويج لمناطق المصالحة على أنها آمنة ومناسبة لعودة النازحين، بالإضافة إلى عقد مؤتمرات وندوات تحاول إقناع المجتمع الدولي بأن مناطق المصالحة نماذج مثالية يتم تنفيذها في كل سوريا يُزعم أنها ستؤدي إلى الاستقرار والاستعداد لعودة النازحين. بعد تحليلنا السابق لانهيار اتفاق المصالحة في درعا، والذي كتب قبل التصعيد الأخير، تهدف هذه اللمحة الموجزة إلى توضيح كيف أن ما عرف بـ “اتفاقات المصالحة” لم تكن أكثر من أداة للنظام السوري وحلفائه لتحقيق الخضوع والاستسلام، إضافة لتهجير السوريين الذين يُنظر إليهم على أنهم غير موالين للنظام. ولم يتوقف النزوح من درعا باتجاه إدلب منذ توقيع الاتفاق، حيث يخاطر الناس بحياتهم للفرار رغم كل مخاطر الرحلة المذلة والتهديد الذي يواجه وجهتهم. وهذا يضعك بصورة كل ما تحتاج معرفته حول الطريقة التي يعامل بها النظام السوري من “يتصالح” معهم.
اليوم ومع استمرار النزوح غير المسبوق بأشكال وطرائق مختلفة، تظل العودة الآمنة والطوعية والكريمة لأكثر من نصف سكان سوريا هي القضية الرئيسية لأي أمل في سلام دائم ومستقر في البلاد والمنطقة، صياغة التقارير عن ذلك يتمتع بأهمية قصوى لمنع التطبيع ولمنع قبول مثل هذه الممارسات التي تهدف إلى ترسيخ النزوح والحفاظ على قبضة النظام السوري القمعية على السكان السوريين.
اتفاقيات المصالحة في سوريا
لطالما كانت اتفاقيات المصالحة في سوريا أداة يستخدمها النظام السوري وروسيا للسيطرة على المناطق التي لم يتمكنوا من السيطرة عليها بالقوة العسكرية. المنطق المتبع ينص على: محاصرة منطقة ثم تجويع أهلها ثم إجبارهم على الاستسلام ثم ابتزازهم للتوقيع ثم التراجع عن كل الوعود ثم تكثيف القمع، وفي النهاية تهجيرهم. وتتراوح هذه الاتفاقات بين التنازلات التي قُدمت بعد وقف إطلاق النار حيث يظل مقاتلو المعارضة يشاركون في المهام الأمنية والحكومية (مثل حالة درعا)، إلى حالات الاستسلام العملي للمعارضة، بما في ذلك إجلاء المقاتلين أو حتى مجتمعات بأكملها (مثل حالة الغوطة الشرقية).
عادة ما يتم توقيع هذه الاتفاقيات عندما يتم الوصول إلى حالة من الجمود بحيث لا يكون النظام قادرًا على تولي زمام الأمور عسكريًا على الرغم من التدمير المستمر للمناطق المدنية بمساعدة القوات الجوية الروسية. تضمنت التكتيكات عادة حصار التجويع، حيث لم يحرم النظام الناس في هذه المناطق من احتياجاتهم الغذائية والدوائية الأساسية فحسب، بل كان يهاجمهم ويقصفهم بلا هوادة باستخدام القوة الجوية، ويدمر البنية التحتية ويقتل الأبرياء، وفي نهاية المطاف يجبر المنطقة على الاستسلام وتوقيع ما يعرف باتفاق “المصالحة”.
كتبت الرابطة السورية لكرامة المواطن إحاطة تفصيلية تصف استراتيجية النظام لتحقيق تغيير ديموغرافي طويل الأمد لهذه المناطق من خلال النزوح. في كثير من الحالات، كانت اتفاقيات المصالحة هي الأداة الأساسية لهكذا تغيير ديموغرافي.
في آب 2012، وفي داريا تحديدًا، ارتكب النظام السوري أسوأ وأكبر مجزرة في سوريا استمرت لمدة ثمانية أيام، راح ضحيتها أكثر من 700 من سكان المدينة، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وتم التعرف على 512 منهم فقط. في نهاية المطاف، وفي آب 2016، أجبر النظام أهالي داريا على توقيع اتفاق أجبرهم على النزوح إلى إدلب والكسوة. على عكس الاتفاقات الموقعة في مناطق أخرى، حيث طرح وفد النظام شروطًا قاسية، بما في ذلك إخلاء المدينة بالكامل بناءً على قرارات القيادة العليا التي طلبت “عدم ترك أي أثر لأي شخص داخل داريا، مع التهديد بغزو المدينة وإبادتها في حالة الرفض.
في عام 2018، وقعت فصائل المعارضة في شرق القلمون، وهي بلدة بريف دمشق، اتفاقية مع النظام تضمنت فعليًا التهجير القسري للسكان الأصليين إلى شمال سوريا. ووقعت أول اتفاقية مصالحة عام 2015 بين النظام وفصائل المعارضة في بلدات القلمون الشرقي بريف دمشق.
الاتفاقات العديدة التي تم توقيعها في ضواحي دمشق مثل الغوطة الشرقية والزبداني (جزء من اتفاقية المدن الأربعة) ووادي بردى والعديد من الاتفاقيات الأخرى لم تؤد فقط إلى تهجير قسري كامل للسكان، ولكنها مهدت أيضًا الطريق لتغيير الواقع الديموغرافي في المنطقة ولكن أيضًا استبدال السكان الأصليين بآخرين موالين للنظام.
في عام 2016، أعلن الأسد بشكل صريح وعلني عن أهداف هذه الاستراتيجية عندما تحدث عن “سوريا المفيدة”، وهي منطقة من البلاد ذات أهمية جغرافية وديموغرافية لاستمرار حكمه. ولتحقيق “مدينة فاضلة” لسكان موالين يتركزون في مناطق يُنظر إليها على أنها ذات أهمية استراتيجية، أطلق النظام السوري العنان لحملة تهجير وإحلال قسري استمرت بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا.
في المقابل، ورغم كون روسيا ضامناً في معظم تلك الاتفاقات، إلا أن النظام السوري لم يحترم ما عليه واستمر في مضايقة واعتقال العديد من المدنيين الذين تخلفوا عن الركب ولم يرغبوا في مغادرة منازلهم، مما جعل مناطق المصالحة هي المناطق الأقل أمانًا والأكثر ضعفًا في سوريا كما ورد في تقرير الرابطة الأخير الذي أشار إلى أن 94٪ من السوريين في مناطق المصالحة لا يشعرون بالأمان بسبب ممارسات النظام وبسبب عدم التزامه بوعوده.
تطبيع الرعب في مناطق المصالحة
وفي أحدث تقرير أصدرته الرابطة السورية لكرامة المواطن، والذي ضم 533 مشاركًا يعيشون في مناطق سيطرة الأسد، كان 31٪ من المشاركين في مناطق المصالحة، خاصة في ريف دمشق ودرعا. وكانت أهم النتائج أن الشعور بالأمان تفاوت بحسب القوة المسيطرة، وكان أسوأ ما تكون في مناطق سيطرة النظام السوري. أفاد حوالي 50 بالمائة من الأشخاص في المناطق التي يسيطر عليها الأسد بأنهم لا يشعرون بالأمان، بمن فيهم أولئك الذين لم يغادروا. في حين أن 67٪ من العائدين من خارج سوريا لا يشعرون بالأمان، فإن مناطق المصالحة التي يروج لها الروس كمناطق آمنة كانت الأسوأ حيث قال 94٪ إنهم لا يشعرون بالأمان.
وأظهرت المقابلات أن السبب الرئيسي لعدم الشعور بالأمان في مناطق المصالحة هو أن هذه المناطق لا تزال تشكل مشكلة وعقبة أمام تطلعات النظام السوري في محاولته إخضاع الشعب السوري، حيث استمر النظام في الاعتقالات والتجنيد القسري والاغتيالات.
وأرجع المستجيبون للدراسة الأسباب الرئيسية لانعدام الأمن إلى القبضة الأمنية، كما عزوا انعدام الأمن وانتشار الجريمة لسوء الأوضاع الاقتصادية. مما لا شك فيه أن هذه الأرقام والنتائج تدحض بشكل واضح مزاعم النظام السوري وحلفائه بأن غياب العمليات العسكرية يشير إلى أن المنطقة أصبحت آمنة، في حين أظهر الاستطلاع أن البيئة الآمنة لا تقاس فقط بغياب العمليات العسكرية ولكن أيضا بتصرفات الأجهزة الأمنية وانتشار الجرائم.
وتشير نتائج التقرير بشكل مباشر إلى أن القوات الأمنية هي السبب الرئيسي لانعدام الأمن، وتختلف نسبة الخوف من منطقة إلى أخرى، لكن الجدير بالذكر أن مناطق المصالحة التي يروج لها النظام والروس على أنها مناطق آمنة سجلت نسبة خوف بلغت 92٪ وهي أعلى نسبة خوف.
وفيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير في مناطق المصالحة، أشار أكثر من 90٪ من المستجيبين للدراسة في هذه المناطق إلى أنهم غير قادرين على إبداء رأيهم. هذا يستبعد أي احتمال لحياد أي انتخابات، وهذا يتعارض بشكل أساسي مع مفهوم البيئة الآمنة، لأنها بالتأكيد بيئة لا يمكن لأي مواطن أن يعبر فيها عن آرائه وأفكاره وتطلعاته السياسية.
كما أظهر التقرير انخفاضاً في متوسط الدخل في مناطق المصالحة مقارنة بباقي المناطق، بسبب القيود الاقتصادية التي يفرضها النظام السوري وعدم تسهيل إعادة الحياة الاقتصادية وعودة الموظفين إلى وظائفهم. بالإضافة إلى عدم توفير المستلزمات الزراعية اللازمة لإعادة المزارعين إلى أراضيهم.
أما فيما يتعلق بالرعاية الطبية، فقد سجلت مناطق المصالحة أصعب حصول على الرعاية الطبية. أبدى المستجيبون للدراسة عدم رضاهم عن نقص الخدمات الطبية، وتحميل المواطنين لأعباء جديدة نتيجة الحصول على الخدمات الطبية من القطاع الخاص إن وجد، وهذه التكلفة لا تتناسب إطلاقاً مع متوسط الدخل في تلك المناطق، مما اضطر الكثير منهم لبيع أراضيهم لعلاج من يحبون.
على الرغم من انخفاض المعدل الإجمالي للاعتقالات في جميع المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري من 53 % إلى 40 % حتى عام 2020، فإن هذا الانخفاض بالتأكيد لا يرجع إلى تغيير في عقلية النظام السوري، بل بسبب نزوح أكثر من نصف الشعب السوري. وهكذا انخفض عدد الأشخاص الذين يمكن أن يعتقلهم النظام. ومع ذلك، ارتفعت النسبة بشكل ملحوظ في مناطق المصالحة. وبحسب نتائج التقرير فقد ارتفعت هذه النسبة من 64 % قبل اتفاقات المصالحة إلى 89 % بعد الاتفاقات، وهذا يشير إلى أن ضمانات النظام السوري وحلفائه لا تعني شيئاً مع استمرار حملات الاعتقال والإخفاء القسري التي طالت حتى أولئك الذين شملتهم قوانين العفو. وأظهرت أرقام التقرير أن 19 % من المعتقلين الذين شملهم الاستطلاع مشمولون بقوانين العفو بينما 26 % من المعتقلين مشمولين باتفاقات المصالحة.
مسألة درعا
عند محاولة الإجابة عن السؤال المتعلق بأهمية درعا، من المهم أن ننظر كيف بدأ كل شيء. في نهاية فبراير 2011، كتب طلاب أطفال شعارات تندد بنظام الأسد على جدران مدرستهم، مستوحاة من أحداث الربيع العربي في المنطقة. وهرع أحد أفرع الأجهزة الأمنية برئاسة عاطف نجيب ابن خالة بشار الأسد لاعتقالهم. تم تعذيب الطلاب وخلع أظافرهم، كما تم تهديد أسرهم بالاعتقال عندما حاولوا معرفة مكان احتجازهم. امتدت الاحتجاجات إلى مدارس أخرى وأثارت احتجاجات سلمية واسعة النطاق امتدت إلى محافظات أخرى. استمرت التظاهرات السلمية في درعا وعبر مناطق سوريا على مدى الأشهر القليلة التي تلتها. رد النظام بقتل المتظاهرين. استمر القمع والاعتقالات الجماعية، وتطور الوضع إلى اشتباكات مسلحة اشتدت مع تزايد أعداد جنود جيش النظام الذين انشقوا إلى جانب الثوار. تم طرد قوات النظام في نهاية المطاف من المنطقة بأكملها، وتحول الصراع إلى قصف مستمر ومعارك ضخمة، وانتهت في النهاية بمشاركة روسيا. القوة الكاسحة المفرطة على فصائل المعارضة والمدنيين المحاصرين أجبرتهم على توقيع اتفاق مصالحة منتصف 2018 مع روسيا كضامن.
لكن حتى قبل ذلك، ومع بداية الانتفاضة الشعبية في آذار 2011، قلص النظام خدماته للمحافظة كوسيلة للعقاب الجماعي على مناهضة النظام. كان التكافل الأسري والعشائري، بالإضافة إلى الزراعة، وسيلة للبقاء والمقاومة، حيث يقوم الناس بتجميع الموارد وتقاسمها لتوفير الاحتياجات اليومية الأساسية لمعظم الأسر. عملت أكثر من 100 منظمة أهلية خلال فترة سيطرة المعارضة، مما ساعد على تقديم الخدمات العامة. هكذا كان الناس يعيشون قبل اتفاق المصالحة الذي كان من المفترض على الورق أن يوفر عودة إلى الحياة الطبيعية.
نتج اتفاق المصالحة في درعا عن جولات تفاوض بين وجهاء وفصائل المعارضة من درعا، أبرزها المجموعة المسماة “شباب السنة” بقيادة أحمد العودة، ونظام الأسد ممثلة في غرفة العمليات العسكرية في محافظة درعا وبوجود ضباط من قاعدة حميميم الروسية. ظل معظم أعضاء جماعات المعارضة المسلحة في المنطقة؛ بضع عشرات رفضت الاتفاق فتم تهجيرهم شمالاً.
وبموجب الاتفاقية، تعهدت روسيا بضمان تقديم جميع الخدمات الضرورية للمنطقة، بما في ذلك عودة الطلاب والموظفين إلى الجامعات ومؤسسات الدولة. لكن لم تعد الخدمات ولا الوظائف، وتفاقمت الأوضاع المعيشية مع خروج المؤسسات الإنسانية التي كانت تعمل في مناطق المعارضة. كان السكان يعتمدون على موارد المهتمين بدعم هذه المناطق.
بعد توقيع اتفاق المصالحة منتصف عام 2018، عاد آلاف السكان الذين نزحوا نتيجة القصف إلى منازلهم. كان لديهم شعور بتحسين ظروف السلامة مع توقف الصراع العسكري المفتوح ولأن معظم الناس في المنطقة ظلوا في المنطقة[1]. لكن الوضع المعيشي كان سيئا ولم يتحسن رغم الوعود بتقديم المزيد من الخدمات.
ومما زاد الطين بلة وجود النظام والميليشيات الإيرانية، وإقامة حواجز نصبها النظام واستخدمها لاعتقال الشباب وإطلاق النار على من لا يتوقف مع ابتزاز الأموال من المدنيين. كما قيدت نقاط التفتيش هذه حرية حركة التجارة بين المدن والبلدات.
في آذار 2019 تصاعد الموقف، وتظاهر الأهالي ضد محاولة السلطات المحلية نصب تمثال حافظ الأسد متجاهلين توفير الخدمات الأساسية لهم. ورد النظام بدفع المزيد من الشباب إلى التجنيد الإجباري، وبدأ المدنيون وأفراد جماعات معارضة مسلحة سابقة بمهاجمة نقاط التفتيش العسكرية ليلاً في محاكاة للأيام الأولى للمواجهة العسكرية بين النظام والجنود المنشقين والمدنيين الذين قرروا الدفاع عن أنفسهم.
مع بداية عام 2020، حاول النظام اقتحام عدة مدن وبلدات في درعا. وبينما كان الأهالي يحاولون الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات عليهم، تصاعد الموقف عندما استولى الثوار على جنود دخلوا بلدة ناحتة للتفتيش وأشعلوا موجة قتال يومية انتهت بجولة جديدة من المفاوضات[2] وتم تهجير عدد من الشباب باتجاه الشمال السوري. لكن الاعتقالات والاغتيالات والتجنيد الإجباري للشباب ضمن ميليشيات النظام للقتال في جبهات القتال في ريف إدلب وحلب تصاعد. منذ نيسان 2020، تجمعت قوات الأسد على أطراف مدن وبلدات مختلفة في الجنوب وبدأت ترسل تهديدات يومية باقتحامها.
كما وثق مكتب توثيق شهداء درعا منذ اتفاق 2018، 618 شهيدًا على الرغم من الوقف المزعوم للأعمال العدائية في محافظة درعا، مع تزايد وتيرة الاعتقالات والخطف. وقد دارت هذه الأعمال العدائية في ظل رفض واضح للنظام والروس من تنفيذ بنود الاتفاقية التي كان من المفترض أن تجلب الاستقرار إلى المنطقة.
في نهاية المطاف كشف الروس صراحة عن نواياهم عندما هدد الجنرال الروسي “أسد الله”، وهو مسلم شيشاني الأصل، أهالي درعا البلد بأن القوات الإيرانية ستقتحم المدينة إذا لم يسلم الناس الأسلحة الخفيفة التي في حوزتهم، والتي كانوا قد اتفقوا سابقًا مع الروس على الاحتفاظ بها وفقًا لاتفاقية المصالحة الموقعة عام 2018.
قوض البيان الروسي بشكل صارخ اتفاقية عام 2018، حيث قال: “لا يمكننا فرض شروطنا على السلطات، ومع ذلك يمكننا مساعدتكم في التوصل إلى اتفاق. تم إبرام اتفاقية 2018 وفق ظروف خاصة وكان من المهم إنهاء القتال، لكننا اليوم في عام 2021 وليس عام 2018، لذلك يجب تسليم جميع الأسلحة الفردية ويجب على الدولة العودة إلى كل بلدة وحي في جنوب سوريا، حينها سيكون كل شيء على ما يرام، ولن تتوقف الدولة حتى تستعيد كل المناطق الأخرى”.
أخيرًا في أيلول 2021، وبعد عدة مفاوضات واتفاقيات بين الروس وأعيان درعا البلد واللجنة المركزية في محافظة درعا، تم التوقيع على ما يسمى باتفاقية المصالحة الجديدة، وهي في جوهرها ومضمونها خطة تهجير قسري. يمكن تلخيص الاتفاقية بالنقاط التالية:
- جولة أولى من المفاوضات على أساس خارطة طريق روسية تضمنت تنفيذ عمليات تفتيش من قبل قوات الأمن السورية، وتهجير الرافضين للاتفاق إلى إدلب، وعودة المدنيين إلى قراهم، وحل القضايا المتعلقة بالمنشآت المدنية كالكهرباء والمياه وتسوية أوضاع المطلوبين. لكن النظام السوري وأثناء المفاوضات واصل حشد قواته وتشديد الحصار على أهالي درعا البلد بقصف متواصل للأحياء المحاصرة، وبالتالي أدت العملية العسكرية إلى وقف المفاوضات وعدم التوصل إلى اتفاق بسبب تعنت قوات النظام السوري.
- جولة ثانية من المفاوضات أدت إلى انتشار الشرطة العسكرية الروسية في أحياء درعا المحاصرة، وفرض وقف لإطلاق النار على قوات النظام السوري، وتهجير عدد من الرافضين للاتفاق إلى إدلب. تزامن ذلك مع استمرار حشد قوات الأسد لقواته وأسلحته الثقيلة على أطراف مدينة درعا.
- أعقب الجولة الثانية قصف عنيف لقوات النظام السوري واستهداف للمدنيين بالأسلحة الثقيلة والمدفعية والرشاشات ضد المحاصرين في مدينة درعا. وسبق هذه الجولة تهجير 78 شخصا على دفعتين، بينهم 25 طفلا وامرأة، مع تصاعد وتيرة الهجمات العسكرية. رافق ذلك إصرار النظام السوري وحلفائه على انتهاك كل اتفاق وقف إطلاق نار جديد. ورداً على ذلك، أعلنت اللجنة المركزية الغربية في درعا عن التعبئة العامة في المحافظة ودخلت في مواجهة مع قوات النظام السوري وميليشياته الطائفية لإنهاء العدوان.
بعد شهر ونصف على الحصار، تم الاتفاق بين اللجنة المركزية في درعا واللجنة الأمنية للنظام المكونة من حسام لوقا وغياث دلة ولؤي العلي على إنهاء الحصار وتهجير الرافضين للصفقة لإدلب. لكن الفرقة الرابعة والفرقة 15، وبدعم من إيران عملت على خرق الاتفاق وحشد المزيد من القوات العسكرية لاقتحام المدينة.
تسارعت الأحداث أكثر بعد صدور البيان الروسي. دعا الفاعلون المدنيون والثوريون إلى إضراب عام في درعا بدأ في 29 أكتوبر 2021 حتى رفع حصار درعا البلد. بدوره أعلن النظام السوري رسميًا عن بدء تنفيذ عملية عسكرية في درعا، زاعمًا أن العملية كانت للقضاء على “الإرهابيين”. واستُهدف المدنيون، ولا سيما النساء والأطفال، بالمدفعية والهاون والدبابات، تلاه هجوم عنيف شنته قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية على المدينة بهدف تهجير أهلها. كان ذلك علامة على دخول درعا مرحلة جديدة من الصراع بعد أن انتهك النظام اتفاق المصالحة الموقع في 2018.
احتشدت كل محافظة في درعا لدعم مدينة درعا التي كانت تتعرض لحملة عسكرية قاسية نفذتها الفرقة الرابعة. سرعان ما تحولت المعارك إلى اشتباكات طالت كامل أراضي المحافظة، وأدى القصف إلى مقتل ثلاثة أطفال من عائلة الزعبي في بلدة اليادودة، إيذانا بانتهاء اليوم الأول للحملة باستشهاد 11 مدنياً في أحياء درعا البلد واليادودة وطفس بينهم امرأة وأربعة أطفال في بلدة اليادودة وحدها، إضافة إلى إلحاق العديد من الجرحى في صفوف المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال.
وذكر ضباط النظام السوري، الذين سبق أن اعتقلهم أهالي درعا خلال المعارك، أن معركة درعا كانت بأوامر من الميليشيات الإيرانية. كما أشاروا إلى أن الدافع الأساسي للحملة هو القيام بالانتقام الطائفي ضد أهالي درعا، حيث انتشرت الأخبار ومقاطع الفيديو التي أظهرت بوضوح أن الأوامر الصادرة للجنود قبل الهجوم على درعا تهدف إلى الانتقام كقول أحد ضباط الفرقة الرابعة:
“عندنا أناس ماتوا هنا، نحن قادمون لننتقم منهم ونمسح الأرض بكرامة أعدائنا”.
والأهم أن دور الميليشيات الشيعية لم يقتصر على التحريض فحسب، بل شارك أيضًا في عمليات مداهمة وتفجيرات واستهداف للمدنيين، بحسب ما وثق ناشطون من محافظة درعا.
انتهزت قوات النظام السوري الفرصة وعلى رأسها قوات الغيث التابعة للفرقة الرابعة بقيادة غياث دلة، وعادت إلى أسلوبها المعتاد في النهب وقطع الطرق والحصار والقصف على المدنيين، ثم فرض رسوم ابتزازية على المدنيين للسماح لهم بالانتقال وترك مناطقهم المحاصرة لإنقاذ حياتهم وحياة أطفالهم. اضطر البعض للتخلي عن أثاث منزلهم وتركها لقوات النظام لأنهم لم يكن لديهم ما يكفي من المال ليدفعوه.
بلغت حصيلة جرائم النظام السوري وروسيا خلال شهر آب 37 شهيدًا بينهم 5 أطفال و 4 سيدات. كما تم توثيق حالات وفاة تحت التعذيب في ظل ظروف اعتقال غير قانونية في سجون قوات النظام، مع استمرار الاعتقالات والخطف والإخفاء القسري من قبل الأفرع الأمنية لقوات النظام في محافظة درعا، مع اعتقال واختطاف ما لا يقل عن 12 شخصًا بشكل تعسفي من قبل قوات النظام السوري.
نهاية “اتفاقيات المصالحة“؟
“لأننا نرفض قتل الآخرين، كما نرفض الموت لأنفسنا، ولأننا ملتزمون بتنفيذ بنود الاتفاقية، فنحن أهالي درعا نطالب بأن نغادر إلى مكان آمن لتجنب الحرب لأنها ستكون كارثية علينا، وسنسلم مدينة درعا البلد للنظام، خالية من السكان”.
بهذه الكلمات خاطب أهالي درعا وعشائرها قوات النظام السوري وحلفائه الإيرانيين الذين حشدوا قواتهم لاقتحام المدينة، بعد الحصار الذي استمر لأكثر من شهر، نتيجة تهديد الروس باقتحام المدينة إلى جانب المليشيات الإيرانية بعد فشل المفاوضات بين اللجان المركزية في درعا والروس بشأن تسليم الأسلحة الخفيفة.
الغريب في الأمر، أنه وفي خضم المعارك والقتل والتهجير التي فيها خرق واضح لاتفاق “المصالحة” الموقع في درعا، نظمت روسيا مؤتمر “العودة” في دمشق في تشرين الثاني 2020 لتشجيع عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا بدعوى كاذبة وهي أن الوضع أصبح آمناً لعودة النازحين واللاجئين. يمكن تحديد مدى “أمان” سوريا لعودة اللاجئين على أفضل وجه من التقارير الصادرة عن الرابطة السورية لكرامة المواطن، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ولجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة في سوريا وغيرها، والتي ذكرت ووثقت مرارًا وتكرارًا كيف يستمر النظام السوري في استهداف العائدين بالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل والابتزاز والتجنيد الإجباري والمضايقة.
تشير الدلائل بوضوح إلى أن النظام السوري، إلى جانب حلفائه الروس والإيرانيين، لا يهدف إلى استخدام “اتفاقات المصالحة” لتهيئة بيئة مناسبة لعودة النازحين، وإنما لتأمين السيطرة الكاملة على الأرض مع وجود أعداد ضئيلة من السكان الأصليين. الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية هو جذب أموال إعادة الإعمار، وفي النهاية جلب السكان الموالين للنظام، غالبًا من مجموعات طائفية مختلفة ليحلوا محل السكان الأصليين. وتقود إيران والميليشيات الموالية لها هذه الجهود بشكل مكثف.
ويؤكد النموذج المطبق في الجنوب وآثاره مرة أخرى أن نموذج المصالحة الذي نسقته روسيا والنظام السوري بدعم من إيران بعيد جدًا عن تحقيق أي سلام واستقرار في المنطقة.
حصد النظام السوري وروسيا آخر ثمار جهود مصالحاتهما في درعا، التي اضطرت للتوقيع على اتفاق آخر، ليس الأول بل الأخير على الأرجح، بعد حصار وهجمات شرسة على المدنيين من قبل روسيا والنظام بدأت في سبتمبر 2021. تضمنت بنود هذا الاتفاق الأخير إجلاء 70 شخصية معارضة بارزة مع عائلاتهم من المدينة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشمال. هذا بالإضافة إلى دخول جيش النظام السوري والشرطة العسكرية إلى درعا البلد ورفع علمهما، وشمل ذلك أيضًا إقامة حواجز وعمليات مداهمة. كما طُلب من الرجال الذين لم يغادروا درعا تقديم طلبات لتسوية أوضاعهم.
أعلنت اللجنة المركزية في درعا، في الثالث من أيلول 2021، انهيار المفاوضات، وأن الحل الوحيد أمام أهالي درعا هو النزوح إلى الأردن وتركيا. كانت هذه واحدة من العديد من عمليات التهجير القسري الصامتة التي حدثت في جميع أنحاء سوريا، والتي ارتكبها بشكل أساسي النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون والروس. والهدف من هذه السياسة الخطيرة هو أن يسيطر النظام على مناطق ويضع هدفه في “سوريا المفيدة” بغض النظر عن مدى فظاعة الثمن وعدم إنسانيته. لقد أثبت هذا النظام مرارًا مدى عدم موثوقيته، وهذا يثبت أنه لا يمكن أبدًا وجود بيئة آمنة في ظل حكم النظام السوري.
[1] من مقابلة أجرتها الرابطة مع أبو ياسر، من سكان بصرى الشام، أيار 2020
[2] من مقابلة أجرتها الرابطة مع محمد، 25 سنة من بلدة ناحتة، أيار 2020
صورة الغلاف: تطبيق اتفاق التسوية في درعا – 1 أيلول 2021 (شبكات محلية)