أحد المخاوف الرئيسية التي عبر عنها المهجرون السوريون في جميع استطلاعات الرأي التي أجريت بشأن الحد الأدنى من شروط العودة تتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت ضد السوريين مع الإفلات التام من العقاب، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية والتي تسببت بآثار دائمة. المساءلة عن هذه الجرائم هي موضوع نوقش بشكل رئيسي في اللقاءات الدولية واجتماعات كيانات المجتمع المدني، وأحيانًا خارج سياق البيئة الآمنة المطلوبة لعودة آمنة وكريمة للنازحين السوريين. ومع ذلك لدى المهجرين السوريين رؤية واضحة لأهمية المساءلة لرسم أي أمل في عودة مستدامة.
ضمن التشاور الذي قامت به الرابطة السورية لكرامة المواطن، تم التأكيد بوضوح على أنه يجب تطوير آليات المساءلة للتصدي لانتهاكات القانون الإنساني الدولي أثناء النزاع كإجراء لبناء الثقة ولإبعاد مجرمي الحرب ومنتهكي الحقوق من مناصب السلطة في مجتمعات العائدين. بطبيعة الحال، كانت هذه إحدى القضايا الرئيسية التي نوقشت في مؤتمر جنيف “خارطة طريق لبيئة آمنة في سوريا“.
ناقشت الجلسة الجهود التي يبذلها السوريون لتجميع أدلة مفصلة عن الجرائم، والتي يمكن استخدامها يومًا ما في جهود المقاضاة على نطاق واسع. ناقش المتحدثون السبل المحدودة حاليا للمقاضاة، والمحصورة في المحاكم الأوروبية. أخيرًا، ناقشوا الإصلاحات القانونية التي ستكون ضرورية داخل سوريا من أجل خلق بيئة آمنة.
وقدم ميسر الجلسة السيد ياسر الفرحان من رابطة المحامين السوريين الأحرار الموضوع من خلال الإشارة إلى أن العدالة لا تنفصل عن تحقيق البيئة الآمنة، بما أن الأساليب التي أوجد بها النظام بيئة غير آمنة، وتعمد من خلالها تهجير أكثر من 50٪ من السكان، هي بالضبط ما يجب التوجه لها من خلال عملية السعي لتحقيق العدالة.
ناقشت المتحدثة الأولى، لينيا أرفيدسون من لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا، مهمة اللجنة وهي التحقيق في انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان في سوريا منذ عام 2011 ودعم جهود محاسبة الجناة. وأوضحت أن اللجنة جمعت شهادات ما يقرب من 10000 سوري وجمعت معلومات عن أكثر من 3200 من الجناة المتهمين من جميع أطراف النزاع. وأشارت إلى أهمية جهود مثل هؤلاء الشهود الشجعان، وخاصة بين اللاجئين السوريين، في التغلب على حملات التضليل المنتشرة في أوساط النزاع، وأوضحت أن مثل هذه الجهود ستتعرض للخطر إذا شعر السوريون بالضغط أو الإجبار على العودة.
لكنها وصفت أيضاً كيف أن الجرائم داخل سوريا لاتزال مسمرة والإفلات من العقاب هو السمة العامة، مع القليل من الجهود لمحاسبة الجناة. أما خارج سوريا، قالت أن السوريين وحلفاءهم استخدموا القضاء الدولي للسعي لتحقيق العدالة، مما أدى إلى أكثر من 180 تحقيقًا جنائيًا متميزاً في 15 دولة. كما أشارت إلى أن السوريين قد يستخدمون في المستقبل مناهج مبتكرة مثل المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب لمحاسبة النظام السوري. وأشارت إلى أن هذه الجهود قد نمت واتسعت في السنوات الأخيرة، على الرغم من أنها لا تزال تسير بخطى بطيئة بشكل قد يدعو للإحباط.
في انسجام تام مع الخطوات التي حددها المهجرون السوريون في ورقة “خارطة طريق لبيئة آمنة”، ذكرت أرفيدسون أنه من أجل إيجاد بيئة آمنة، يجب أن تتمكن اللجنة الدولية للصليب الأحمر من الوصول إلى جميع مرافق الاحتجاز، ويجب أن تكون هناك إصلاحات أمنية وقضائية كبيرة كما يجب الكشف عن مكان وجود عشرات الآلاف من السوريين، بالإضافة إلى إجراءات أخرى. أخيراً، وافقت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي إلى العمل من أجل توضيح مصير الأشخاص المفقودين والمختفين قسرياً في سوريا.
ناقش أسيد الموسى من رابطة المحامين السوريين الأحرار التحديات لتي تواجه حفظ الأدلة والاحتفاظ بها لاستخدامها في الإجراءات القانونية. وأشار إلى أنه على الرغم من جمع ملايين مقاطع الفيديو التي توثق جرائم الصراع، فإن العديد منها غير مقبول كدليل. كما ناقش دور رابطة المحامين السوريين الأحرار في عقد أكثر من 180 جلسة استماع مع أكثر من 1800 ناجٍ وعائلات الضحايا للتواصل بشأن ما يطمحون إليه من العدالة والمساءلة.
وأوضح الموسى أن الضحايا كانوا ضد أي عفو عن مرتكبي الجرائم، وطالبوا جميعاً بالانتقام أو العدالة، مشيراً إلى أنهم فضلوا السعي لتحقيق العدالة على المستوى الدولي بسبب عدم الثقة في نظام المحاكم السورية. ووصفوا الجرائم الرئيسية التي تم الإبلاغ عنها بالاعتقال التعسفي، يليه تدمير الممتلكات، مشيراً إلى أن حوالي 81٪ من الجرائم المذكورة ارتكبها النظام السوري، وتشكل الجماعات المسلحة الأخرى الباقي. وأخيراً قرأ الشهادة المؤثرة لإحدى الضحايا:
إسمي مها من مدينة معرة النعمان، تم اعتقالي على أحد الحواجز في مدينة حمص بتهمة أنني زوجة إرهابي وتم اقتيادي إلى فرع الأمن الجنائي. تعرضت منذ اللحظات الأولى لكم هائل من السب والشتائم والألفاظ النابية المليئة بالإيحاءات الجنسية القذرة، ثم بدأوا بضربي وركلي وتعنيفي بشكل قاسي، ووضعت بزنزانة ضيقة تحت الأرض فيها خمسة وعشرين سيدة، كلهن تعرضنن للعنف والضرب والشبح والاعتداءات الجنسية والجسدية واللفظية حسب ما أخبروني به قبل ان أرى بأم علي ويمارس علي ذلك. فأنا اليوم اعاني ما أعانيه من آلام جسدية ونفسية للأسف الشديد.
أما ياسمين فتقول: في إحدى جلسات التحقيق استخدم المحقق أساليباً مختلفة من التعذيب كي أعترف بالتهم المنسوبة إلي كالضرب بالكبل والصعق بالكهرباء والمياه الباردة مع إنكاري للتهم …
أعتذر فالكلام قاسي جداً علي شخصياً وعلى المستمعين فلن أكمل
افتتحت نيرما جيلاسيك، من لجنة العدالة والمساءلة الدولية (CIJA) مداخلتها بالاتفاق مع المتحدثين السابقين على أن الصراع السوري موثق جيداً بفضل جهود المنظمات مثل رابطة المحامين السوريين الأحرار، وأن مثل هذه الوثائق ضرورية على المدى الطويل لتحقيق العدالة. وأشارت إلى أن النزاعات السابقة مثل محكمتي يوغوسلافيا ورواندا أظهرت أهمية جمع “أدلة الربط” التي تربط جرائم المجرمين والجنود على الأرض بالمسؤولين على أعلى مستويات القيادة السياسية. وأوضحت أن هذه هي مهمة لجنة العدالة والمساءلة الدولية: جمع مثل هذه الأدلة في شكل وثائق وجمع الاعترافات المباشرة من الجناة أنفسهم.
وأشارت إلى أن الغرض الأولي من مثل هذه المجموعات كان للاستخدام في الإحالة النهائية إلى المحكمة الجنائية الدولية ، لكن لم تكن هناك إرادة دولية لإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية أو لإنشاء محكمة لسوريا. ولذلك أشارت إلى أن الاستخدام الرئيسي لمثل هذه الأدلة كان في الإحالات إلى المحاكم الأوروبية، كما في قضية أنور رسلان. ومع ذلك، أوضحت أن وحدات جرائم الحرب في المحاكم الأوروبية تعاني من نقص شديد في الموظفين ونقص التمويل، ولا يزال الكثير منهم يتعامل مع قضايا من البوسنة. لذلك دعت المحاكم الأوروبية إلى تجديد التزامها بالعدالة فيما يتعلق بالحرب السورية.
المتحدث الأخير في الجلسة كان الدكتور عبد الحميد عواك، قاض سابق في سوريا وأستاذ القانون الدستوري الذي كان مساهماً رئيسياً في ورقة خارطة الطريق لبيئة آمنة. بدأ الدكتور عبد الحميد بالتشديد على أهمية قيام السوريين أنفسهم بتحديد شروط البيئة الآمنة. ووصف أنه شغل منصباً رفيعاً في المؤسسات القضائية السورية، وأنه تعرض للتهديد بالاعتقال عندما أعلن أن الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي غير قانونيين. ووصف أن الدستور السوري لا يسمح باستقلال القضاء. بدلاً من ذلك يتم تعيين القضاة في سوريا وإدارتهم من قبل مجلس القضاء الأعلى، الذي تسيطر عليه السلطة التنفيذية بالكامل. وأوضح أن القضاة كانوا تحت ضغط وإشراف مستمر من أمن الدولة، وأن النظام وعبر تاريخه يعتبر السلطة القضائية عدواً للدولة.
ناقش الدكتور عبد الحميد طبيعة حالة الطوارئ السارية في سوريا منذ الثمانينيات. ووصف كيف تحولت حالة الطوارئ من كونها تدبيراً عسكرياً مؤقتاً إلى إجراء قانوني عام ودائم. وخلص إلى أن القضاء ليس لديه مصلحة في خلق بيئة آمنة، وأنه إذا حاول بعض القضاة وبشكل فردي حماية المواطنين فسيكونون وعائلاتهم في خطر شديد. في النهاية، دعا الدكتور عواك إلى الإصلاحات المبينة في خريطة الطريق إلى بيئة آمنة، من أجل إنشاء مؤسسات قضائية وعسكرية وغيرها من المؤسسات التي من شأنها أن تنشئ بيئة آمنة.
أوضحت لينيا أرفيدسون أن لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة تشارك الأدلة التي تم جمعها مع المدعين العامين الدوليين أو الوطنيين عندما تحصل على موافقة المصادر التي قدمت المعلومات. وأشارت إلى أنهم سيتبادلون المعلومات إذا استلزم الأمر مع أي محكمة دولية مستقبلية تلتزم بمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالإجراءات القانونية الواجبة والمحاكمة العادلة. ومع ذلك، قالت إنهم غير قادرين على الكشف علناً عن أدلة أو أسماء المشتبه بهم بسبب احتمالية البراءة.
وبنفس السياق أشارت نيرما جيلاسيك إلى أنهم تبادلوا الأدلة التي جمعوها مع محققين في 15 دولة، بالإضافة إلى العمل مباشرة مع تطبيق القانون. وأشارت إلى أن هذا الأمر يحظى حالياً بشعبية في أوروبا فقط، حيث يمكن العثور على الجناة وتقديمهم للمحاكمة وتقديم الأدلة. كما أشارت إلى أهمية زيادة عدد القضايا، ولا سيما النهج الاستراتيجي الذي يستهدف الأفراد ذوي الرتب العليا. وأوضحت أنه من خلال مثل هذه الحالات، يمكن إظهار الجرائم على أنها سياسة ممنهجة من أعلى الهرم إلى أسفله للتعذيب وسوء المعاملة. ومع ذلك، سلطت الضوء على العدد المحدود للجناة المحتملين للنظام السوري الذين يمكن العثور عليهم في أوروبا، حيث لم يغادر معظمهم البلاد منذ تدخل روسيا في عام 2014. أخيراً، أعربت نيرما عن قلقها من أن قضية العدالة والمحاسبة على الجرائم المرتكبة في سوريا لم يحظ بالاهتمام الكافي في المفاوضات الدبلوماسية والنقاشات الأخرى، وجادل بأنه يجب أن يكون جانباً حاسماً في هذه المحادثات إذا كان من الضروري إعادة التماسك الاجتماعي والمصالحة بعموم البلاد.
وأكد أسيد الموسى أن هناك تدابير دولية قليلة للسوريين غير المحاكم الأوروبية ذات الاختصاص الدولي، حيث قال: “أغلقت الأبواب في وجوهنا”. لكنه أوضح أن رابطة المحامين السوريين الأحرار تقدم الشهادات وتعمل مع منظمات مثل لجنة العدالة والمساءلة الدولية والآلية الدولية المحايدة والمستقلة. أخيراً، دعا السوريين إلى قيادة هذا الجهد بأنفسهم، داعياً المنظمات المدنية والسياسية والقانونية إلى العمل معاً في هذا الجهد القانوني لجمع الشهادات ومقاضاة الجناة وجمع المعلومات عن المعتقلين في سوريا.
ولخص الدكتور العواك بعض الإصلاحات القانونية المطلوبة لورقة خارطة الطريق للبيئة الآمنة، بما في ذلك: استقلال القضاء، ومجلس القضاء الأعلى المكون من قضاة وليس سياسيين، مما يساعد على ضمان تحقيق هذه البيئة. بالإضافة إلى إلغاء المحاكم الاستثنائية والميدانية في الدستور السوري، ووضع جميع السلطات القضائية تحت إشراف مجلس القضاء الأعلى المشار إليه، على أن تقتصر المحاكم العسكرية على الأمور العسكرية فقط. وأشار إلى أنه تم وضع إصلاحات إضافية بالتفصيل في ورقة البيئة الآمنة.
وهنا تم فتح المجال للأسئلة حيث أعرب العديد من الحضور عن إحباطهم من عدم وجود محاكمة أو إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن، وسألوا السيدة أرفيدسون عما إذا كانت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة تتخذ المزيد من الخطوات. تم توجيه المزيد من الأسئلة للمتحدثين في الجلسة حول الخطوات التي يمكن للسوريين اتخاذها الآن لتوثيق الجرائم بشكل أفضل. أخيراً، وجه أحد الحاضرين سؤالاً عما إذا كانت ورقة خارطة طريق لبيئة آمنة تأخذ في الاعتبار العقبات السياسية والسياسات الدولية في مطالبتها بالإصلاح.
أما لينيا أرفيدسون فقالت بأنها تشارك الحضور إحباطهم ومخاوفهم، لكنها أشارت إلى أن مجلس الأمن الدولي هو الوحيد الذي يمكنه إحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا لم تكن الدولة نفسها مشتركة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وأشارت إلى أن مفوضية الأمم المتحدة تفتقر إلى الوصول إلى الأماكن التي يُحتجز فيها السجناء بمعزل عن العالم الخارجي، وأن اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمراقبين المستقلين لا يمكنهم الوصول إلى جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك شمال سوريا. أخيراً، أشارت إلى أنه على الرغم من وجود توثيق ممتاز للجرائم بين 2011-2015، فمع انخفاض تدفق اللاجئين أصبح توثيق مثل هذه الانتهاكات أكثر صعوبة. ولذلك أشارت إلى الحاجة إلى توثيق الجرائم الأحدث بطريقة آمنة وفعالة.
اختتمت نيرما بتذكيرها بأن المساءلة هي عملية طويلة الأمد لجمع الأرقام وإثبات الحقيقة، بالإضافة إلى العملية التي تم نقاشها والمتعلقة بمحاكمة وعقاب الجناة على نطاق أوسع. كما أشارت إلى أنه بمجرد بدء محاكمات الجناة السوريين، سيكون هناك نضال طويل ولعقود، حيث سيتم العثور على أفراد مدانين وتقديمهم للمحاكمة.
وأخيراً أوضح الدكتور عبد الحميد العواك أنه في حين أن الواقع السياسي الحالي سوداوي، فإن الهدف من خارطة الطريق إلى بيئة آمنة هو تقديم موقف موحد للسوريين حول هذه القضية، والتي يمكن عرضها على المجتمع الدولي بحيث تكون بمثابة الأساس للتفاوض.
يمكنك إيجاد كل المواد المتعلقة بورقة البيئة الآمنة من خلال الرابط التالي: