عند البحث عن حلول مجدية تضمن العودة الآمنة لما يقارب 13 مليون نازح سوري، من الضروري الإشارة إلى أن الأساليب المختلفة من التهجير القسري، التي اتبعها النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون والروس، منذ عام 2011، لم تكن مجرد نتيجة للصراع. بل كانت سياسة وخطة ممنهجة منذ عهد حافظ الأسد، لتحقيق أهداف استراتيجية ضمن تطبيق سياسة التغيير الديمغرافي، ولخدمة الهدف، الذي أطلق عليه بشار الأسد لاحقاً مسمى سوريا المفيدة “useful Syria”.
بعد أن خمدت أصوات المدفعية الثقيلة في دمشق وريفها، منذ ما يقارب الأربع سنوات، أعلنت قوات النظام السوري استعادة السيطرة على المناطق، التي كانت خارج سيطرتها (بالعنف والقوة)، إلا أن أصوات الانفجارات العشوائية ما زالت تُسمع بين الحين والآخر،، حيث برر النظام السوري أن كل هذه الانفجارات تصب في مصلحة المواطنين لإعادة إعمار المنطقة.
يعد حي القابون ، الذي يتميز بموقعه الاستراتيجيي عند مدخل العاصمة دمشق، والذي نزح منه، في عام 2017، ما يقارب 5000 سوري إلى ريف إدلب، من ضمن الأياء التي رفضت توقيع اتفاقيات المصالحة مع النظام السوري، مما جعله عرضة لانتهاكات النظام السوري و جيشه حيث تعرضت أبينة الحي لعمليات الهدم وتم تحويلها إلى أنقاض، بحجة التخلص من الألغام والأنفاق والذخائر غير المنفجرة.
أعلن النظام السوري إخضاع حي القابون للقانون رقم 10، كما أشارت وسائل إعلام رسمية موالية للنظام السوري إلى أن محافظة دمشق تدرس إدراج المنطقة الصناعية في القابون، بالإضافة إلى جوبر والتضامن والمزة 86، لإعادة تنظيمها ضمن القانون، الذي فسره قانونيون سوريون بأنه يهدف لمصادرة أملاك المهجّرين والنازحين غير القادرين على العودة إلى منازلهم في المناطق الخاضعة حالياً لسيطرة النظام السوري.
الشاب (ع .هـ) موظف حكومي اضطر مع عائلته إلى الخروج من منزله في حي القابون عام 2012، واتجه نحو العاصمة دمشق، تاركاً وراءه أخاه الأصغر وأصدقاءه وجيرانه، الذين بقوا في القابون إلى أن تم تهجيرهم قسرياً في شهر أيار من عام 2017.
أجرت الرابطة السورية لكرامة المواطن مقابلة مع (ع .هـ) المقيم حالياً، في العاصمة دمشق تحدث فيها عن قصته عن التهجير، ووضع حي القابون حالياً:
هل يمكنك إخبارنا، من أين أنت؟ وما هو وضعك الحالي؟ وما هو وضع عائلتك الآن؟
منذ ولادتي، وأنا مقيم في منزلنا. أمضيت حياتي في حي القابون، حتى نزحت منه قسراً في شهر كانون الأول من عام 2012. وأقيم الآن مع زوجتي وأمي المريضة في أحد أحياء دمشق ويعيش أخي الأكبر في حي آخر في دمشق.
كان أخي الصغير في الخدمة العسكرية في حمص، لكنه انشق في عام 2011 وهرب عائداً إلى القابون للبقاء معنا، وكان يضطر للهرب أثناء حملات الاعتقال والمداهمات، التي كانت تحدث في الحي. في عام 2017، أُجبر على مغادرة الحي واتجه إلى إدلب، ثم تمكن في نهاية المطاف من الوصول إلى تركيا.
ومن الجدير بالذكر، أن عدداً قليلاً من المدنيين لم يُسمح لهم بالخروج وكانوا مقيمين في منازلهم على الرغم من انعدام مقومات الحياة وندرة المواد الغذائية. كان هناك بعض الدمار الذي لحق ببعض المباني، لكنها كانت ما تزال صالحة للسكن.
هل تخططون للعودة؟
كنا ننتظر بفارغ الصبر أن تهدأ الأوضاع ونعود للعيش في منزلنا، كنا نعيش هذا الحلم منذ اليوم، الذي غادرنا فيه.
بعد اتفاق التهجير، حاولنا مراراً دخول الحي لكي نرى إذا كان بإمكاننا العودة للعيش فيه، لكن طلبنا كان يُرفض دائماً من قبل الحواجز المحيطة بالحي بحجة ضرورات أمنية، وأن المنطقة خطرة وغير آمنة للعودة. تمكنت أخيراً من الحصول على موافقة أمنية وبالفعل دخلت الحي عام 2018، لكن لم أجد لا منزل ولا حي ولا أي شيء من ذكرياتنا القديمة. كانت منطقتنا عبارة عن كتل من الأنقاض والدمار.
هل تقصد أن منزلكم تم هدمه بعد اتفاق التهجير؟
نعم، بالتأكيد.
لأن أخي تزوج وبقي في منزلنا حتى غادر إلى الشمال. حتى أنه أخبرنا عن أشيائه وأغراض المنزل، التي تركها داخله من أثاث وما إلى ذلك.
هل لديك أي معلومات عن سبب هدم المنازل والمباني بهذا الشكل؟
بعد تهجير أهالي الحي، كنا نسمع أصوات انفجارات، لأن مكان إقامتنا قريب من حي القابون، وكنا نتابع تصريحات وسائل الإعلام الرسمية، بأنه في يوم كذا سيتم تفجير مخلفات الألغام، التي تركها المسلحون قبل خروجهم إلى الشمال. وبالفعل في اليوم المحدد نسمع الأصوات ونرى سحب الدخان المتصاعدة. وعند دخولي للحي، تبيّن أن ما كان يتم تفجيره هو منازل وأبنية المدنيين في الحي القديم للقابون، ومن ضمنهم منازلنا.
يستطيع من يشاهد بقايا الأنقاض ومخلفات الردم والدمار الحاصل، أن يستنتج بسهولة أن هذا الدمار لم تسبّبه الانفجارات، وإنما تم تجريف الأبنية بواسطة جرافات أو تركسات كبيرة، وتسويتها بالأرض فلا توجد آثار لحفر ناتجة عن انفجار، ولم تكن هناك متفجرات من مخلفات الحرب أو ما شابه ذلك.
برأيك ما هو السبب وراء قيام قوات النظام بهدم هذه المنازل؟
أولاً، لا يخفى على أحد من أهالي دمشق والقابون أن الحي يقع ضمن كتلة من الثكنات العسكرية التابعة لقوات النظام السوري، والتي كانت أولى النقاط المستهدفة من قبل فصائل المعارضة. ومن ثم، جاء الهدم كنوع من الانتقام.
وسبب آخر، هو رفض فصائل المعارضة لفترة طويلة الخضوع لأي اتفاق هدنة أو مصالحة، على عكس ما فعلته الفصائل في مدينة برزة المجاورة، لذلك لم تشهد برزة الدمار، الذي شهده القابون.
ما هو الوضع الحالي في حي القابون؟
هناك حواجز محيطة بالحي، لا تسمح لأحد بالدخول أبداً إلا بعد الحصول على موافقة أمنية، التي من الصعب الحصول عليها إلا بالواسطة والرشاوي، ولو تم الحصول عليها فهي تُمكن حاملها من الزيارة فقط.
هناك عدد قليل من العائلات، التي تقطن في أطراف الحي وأيضاً لا يُسمح لها الخروج إلا بموافقات أمنية. والأوضاع المعيشية ما زالت سيئة للغاية وأبسط مقومات الحياة غير متوفرة داخل الحي.
هل يمكنك إعادة بناء منزلك أو القيام بأعمال الترميم؟
العودة ممنوعة، فكيف نعيد بناء المنزل؟
بعد صدور القانون رقم 10 لعام 2018 الذي يتمحور حول عملية إعادة الإعمار، وبدء تطبيقه في عام 2019. حيث طلبت محافظة دمشق أن نقدم أوراق لإثبات ملكية العقارات، ليتم منحنا أسهماً في المخططات التنظيمية الجديدة.
ما هي الأوراق المطلوبة؟ وهل قمت بتقديم الأوراق؟
لحسن الحظ، عندما خرجنا، أخذنا معنا أوراقنا المهمة، بما في ذلك مستندات الملكية والفواتير وما إلى ذلك. فاستطعنا أن نؤمن الأوراق المطلوبة (سندات الملكية، الهويات الشخصية، لا حكم عليه، براءة ذمة بأننا سددنا كل التزاماتنا المالية من فواتير للكهرباء والمياه والهاتف عن طيلة تلك الفترة، التي كنا فيها أساساً خارج الحي).
لسوء الحظ، لم يتمكن أبناء عمي من إثبات ملكيتهم، لأنه لم يكن لديهم الأوراق والمستندات اللازمة. وبالتالي، فإن الممتلكات التي لم تتم المطالبة بها أو التي لم تُثبت ملكيتها سيتم تسليمها إلى المجلس المحلي أو الدولة نفسها وفقًا للقانون 10 لعام 2018.
ومنذ أن قدمنا الأوراق قبل عامين تقريباً إلى الآن، لم يُحرك النظام ساكناً. وما زالت أوضاع الحي على حالها من تواجد الأنقاض والمباني المدمرة. وعندما نقوم بمراجعة المحافظة للاستفسار يقولون لا جديد إلى الآن وأنه علينا الانتظار. وحتى الآن لم يتحقق شيء من الوعود.
ما هو أملك في المستقبل؟
نأمل أن نعود إلى حينا، بعد اتفاقيات التهجير، للتخلص من عبء الإيجارات، التي أرهقتنا ومن الحياة الصعبة في كافة المدن ومن ضمنها دمشق. على الرغم من الدعاية الحكومية بأن “الحرب” قد انتهت، يعاني المقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة للنظام من تأمين أبسط مقومات الحياة وعدم القدرة على تغطية نفقاتهم.
فكرت كثيراً في الهجرة إلى أوروبا كحال الكثيرين، لكن حال دون ذلك أمي المريضة، والأصعب من ذلك هو أنني أحتاج إلى إذن للمغادرة وللحصول عليه يجب أن أدفع مبالغ كبيرة من الرشاوي.
في النهاية، نأمل أن تسود العدالة في سوريا، لتعود الحقوق إلى أصحابها، ولنستطيع نحن والكثير ممن هم في وضعنا من العودة إلى بيوتنا وأراضينا وأن نعيش حياة طبيعية كريمة.