مع بداية الشهر الحالي بدأ إعلام النظام السوري بإظهار أن جزءًا من المهجرين قد بدؤوا بالعودة إلى منازلهم في ريف البو كمال. وقد نشرت وكالة سانا التابعة للنظام عدداً من الصور للعائدين إلى تلك المنطقة مع تعليق “عودة عشرات الأسر المهجرة إلى بلداتهم وقراهم المحررّة من الإرهاب بريف دير الزور الجنوبي الشرقي” وحسب ما ذكر تقرير آخر انه “قام فرع دير الزور لحزب البعث العربي الاشتراكي بتقديم الباصات للمواطنين الراغبين بالعودة الى قراهم من المحافظات الاخرى مجاناً”
ولكن ما لم يذكره إعلام النظام أنّ العائدين لا تزيد نسبنهم عن 10٪ من السكان الذين هُجَّروا خلال السنوات السّابقة. مثل هذه التقارير تعمل على تزوير الحقائق، وخداع الرأي العام، من خلال تسليط الضّوْءِ على بعض حالات قليلة عاد فيها بعض المُهَجَّرين، وتجاهل أنّ الغالبيّة العظمى من أهالي تلك المنطقة لا يستطيعون العودة بسبب استمرار سياسة النظام الأمنيّة وما يقوم به من انتهاكات تجاه العائدين،
وفي هذا السياق أوضح خطّاب العواد من مدينة البو كمال وعضو الرابطة السورية لكرامة المواطن عن عملية العودة الأخيرة التي روّج لها إعلام النّظام حيث قال: “إنّ معظم العائدين إلى تلك المنطقة هم ممن نزح سابقاً إلى العاصمة دمشق، وقد عادوا بسبب الغلاء وسوء المعيشة، وذلك من خلال رجال المصالحات التابعين للنّظام”
وبيّن خطّاب: أنّ الاخطار التي تواجه العائدين إلى مناطق النظام كبيرة، فقال “أعرف عدداً كبيراً ممّن عادوا الى مناطق النظام بعد أن ضاقت سبل العيش معه وعجزوا عن تأمين مسكن ومأوى لعائلاتهم في مناطق النزوح. وعند عودتهم رحب النظام بهم خلال أيام وبعدها بدأت عمليات تجنيد الشباب بالمليشيات الإيرانية أو جيش النظام ومن لم يستجب تعرّض للاعتقال والإخفاءِ أو التصفية الجسديّة من قبلِ النظام والمليشيات، وقيدت حالات قتل ضد مجهول. كما أنّ هناك عوائل سنحت لها الفرصة بالهرب من مناطق النظام بعد عودتهم”.
ما يشرحه خطاب العواد هو عملية “العودة “المطّبقة من قبل النظام. إذ لم يتم السماح لكل المهجرين من أهل المنطقة بالعودة ولكن فقط للنازحين داخليا إلى مناطق خاضعة إلى سيطرته مثل ريف دير الزور ودمشق ومنطقة الساحل. وكان تردي الظروف المعيشية الدافع الأساس لعودتهم على الرغم من سوء الوضع الأمني في الأماكن التي يعودون إليها.
الخوف من الاعتقال والتصفية
هنا يجب العودة الى السؤال الرئيس حول الأسباب التي أدت إلى التهجير وهل لا تزال موجودة؟ مما قد يعطي صورة أوضح عن إمكانية العودة لبقية المهجرين، حيث يقول فارس الأسود : “إنّ أوّل تهجير لي من دير الزور كان عام 2012 بسبب دخول قوات النّظام، ثمّ تمّ تهجيري إلى تركيّا عام 2015، وأنا لا أستطيع العودة لأنّني مطلوبٌ للنّظام، وقد حُرِمَ أولادي من الحصول على جوازات سفرٍ بسببي، وعودتي تعني اعتقالي، بالإضافة إلى أنّ بيتي تحتلّه مليشيات الدفاع الوطني، التي لم تسمح لأهلي بدخوله“ وعند سؤاله عن إمكانية العودة من خلال عملية المصالحة مع النظام يذكر فارس ” طبعاً لا اثق بالمصالحات مع النظام فلا ضمانات تجعلني أثق به فقد سمعت الكثير عن حالات مصالحة قد تم اعتقال أصحابها أو ابتزازهم بمبالغ مالية ضخمة خوفا من الاعتقال.
إنّ وجود هذا الكمّ الكبير من الميليشيات المتنوّعة، والتي يصعبُ التحكم بها أو السّيطرة عليها لأنها لا تخضع في الأصل لقانون واحدٍ، بل تعود لمراكز قوى مختلفة، ممّا يجعل العودة الآمنةَ شبهَ مستحيلةٍ، وأعتقد أنّ نسب العودة ـــــــــ إن وجدت ــــــــــ فهي ضئيلةٌ جدّاً.”
هذا يؤكد إحدى النتائج الرئيسية لتقرير” نحن سوريا” أخر تقرير للرابطة السورية لكرامة المواطن الذي هو عبارة عن استبيان شمل ١١٠٠ مهجَّر أن ٩٠٪ من المشاركين في الدراسة يرون أن شعورهم بعدم الأمان كان أحد أبرز الأسباب لتهجيرهم. مما يسلط الضوء على أهمية الوضع الأمني بالنسبة للمهجرين السوريين خاصة حول قرارهم بالعودة لمناطقهم. وفي هذا السياق يضيف د. محمد سليمان عضو الرابطة السورية لكرامة المواطن “الخطر الأكبر بالنسبة لي ولعائلتي هو الاعتقال من قبل النظام أو أعوانه في المنطقة وربما التصفية. هناك العديد من المعارف الذين ضاقت بهم الحياة في لبنان والأردن وعادوا لفترة قصيرة لدير الزور وأريافها لكنهم سرعان ما غادروها باتجاه تركيا ومنها إلى أوروبا بمساعدة المهربين.” يؤكد شرح د. محمد إحدى النتائج الرئيسية من تقرير “الانتقام والقمع والخوف: الواقع وراء وعود الأسد للاجئين والنازحين السوريين” الذي صدر من قبل رابطة كرامة في شهر أكتوبر 2019حيث يذكر التقرير الذي تم العمل عليه حول أوضاع السوريين و المهجرين في مناطق سيطرة نظام الأسد أن ٦٠٪ من الذين أجريت معهم مقابلات ( و ٧٣٪ من الذين يعيشون في مناطق استولى عليها النظام بالقوة ) بأنهم يفكرون جدياً في المغادرة إذا ما سنحت لهم الفرصة .
إن الحقيقة بان الظروف الأمنية المناسبة لعودة غالبية المهجرين من دير الزور غير موجودة، حيث أكد ذلك المهجرون من المنطقة وهم حاليا يقطنون في دول الاتحاد الأوروبي حيث ذكرت (م.خ) وهي مهجرة من دير الزور تقيم في المانيا “طبعا العودة الى مناطق النظام باتت مستحيلة في ظل بقاء الوضع الراهن على حاله لان زوجي ضابط منشق وسوف نعتقل فور تواجدنا في مناطقه إضافة لاستيلاء النظام على منزلنا الذي لم يسلم من بطش النظام وكذلك أعرف ابن أخت زوجي الذي قام بالمصالحة وتسوية وضعه ليتمكن من اكمال تعليمه لكن الأمن اعتقله بعد فترة وجيزة ولا يزال مصيره مجهولا، طبعا بعد هذا الموقف ازداد خوفي من النظام والاعتقال وعلمت انه لا يوجد ضمانات حقيقية من هذا النظام المجرم واي عائد الى مناطق النظام لن يأمن على نفسه من الاعتقال لان النظام يستولي حتى على الاملاك وليس فقط الأشخاص” يشرح (ع.أ) من مدينة الميادين حول فكرة العودة بالنسبة له في ظل الظروف الحالية “لا أستطيع العودة بسبب خوفي من الاعتقال أو الخطف أو التجنيد مع الميليشيات هناك، وأنا أعرف الكثير ممّن عادوا وما حلّ بهم، أعرفُ عسكرياً منشقاً عاد وتم تصفيته في السجن، وأعرف طبيباً عاد فسجن واضطرّ لدفع مبلغ مالي كبير حتى خرج. العودة الحالية أغلبها من مناطق دمشق بسبب ضيق المعيشة. إنّ نسبة العائدين قليلة حيث أن الجميع يخشون على عائلاتهم هناك مع غياب واضح ونقص في الخدمات خاصة الطبية والتعليم”
نموذج عودة مخيم الركبان
ترسم هذه الشهادات صورة قاتمه للوضع، حيث يمكن بسهولة مقارنة عودة بعض العائلات الى دير الزور التي عمل النظام على الإشادة بها بنموذج العودة “الآمنة والطوعية “التي روج لها النظام وروسيا لسكان مخيم الركبان. حيث اضطر عدد منهم للعودة سنة ٢٠١٩ بسبب عملية التجويع الممارسة ضدهم . تم اعتقال العديد منهم ولايزال مصير بعضهم مجهولاً إلى الان. حيث أنّ النّظام أعطاهم ضماناتٍ وتصاريح بعدم التعرض لهم كما حدث الآن مع سكان ريف دير الزور ولكن النظام قام باعتقالهم على الفور وتحويلهم إلى محاكم الإرهاب.
ويشرح د. محمد سليمان عملية العودة الأخيرة “حصل مؤخرا عودة بعض العوائل التي كانت نازحة داخليا في مناطق دمشق والساحل وحمص، وتحت ضغط تلك العوائل ورغبتها بالعودة لمناطقها المتواجدة تحت سيطرة الميليشيات الايرانية وجيش النظام غرب نهر الفرات، هذا الضغط بدأ يظهر اعتبارا من منتصف عام 2017، والان وبشكل مفاجئ سمحت تلك الميليشيات وبتخطيط من النظام السوري لجزء من سكان تلك المناطق بالعودة الى مناطقهم ”
ومن خلال النظر على الوضع الأمني في محافظة دير الزور المكان الذي احتفل إعلام النظام بعودة المهجرين إليه يظهر ان المليشيات المتواجدة في المنطقة هي المصدر الأساسي للخطر و عدم الأمان للمهجرين. حيث ذكرت وكالة فرات برس عن مذبحة قام بها أفراد المليشيات في محافظة دير الزور ضد المدنيين في شهر نيسان حيث ذكرت “تفيد المعلومات، بأنه عند الساعة السادسة من مساء الجمعة، عمد مسلحون ينتمون لميليشيات “فاطميون” الأفغانية، وعناصر من ميليشيا جيش العشائر (دفاع وطني)، إلى الهجوم على أفراد عدد من العائلات المدنية التي ترعى الغنم بالبادية القريبة من قرية معدان عتيق، واعتقلوا أفرادها قبل أن يتم تصفيتهم بطلق ناري على الرأس بعد تكبيل أيديهم، ومن ثم أحرقوا الخيم التي كان يقطنونها.“ تعد هذه الجريمة من قبل حلفاء النظام بحق سكان دير الزور احد الأمثلة لتردي الوضع الأمني في المنطقة والتي تظهر الكذب في الدعاية حول ” عودة المهجرين ” التي يعمل عليها إعلام النظام .
يثير التساؤل عن سبب حدوث هذه “العودة” الآن، حيث أشادت بها وسائل الإعلام التابعة للنظام. من الممكن أن تكون إحدى الإجابات المحتملة مرتبطة بمؤتمر عودة اللاجئين السوريين الذي تشارك في تنظيمه وزارة الدفاع الروسية في دمشق يومي 10 و 14 كانون الأول / ديسمبر. ومن المتوقع أن تستخدم مثل هذه الحالات لإظهار عدم وجود عقبات أمام عودة المهجرين السوريين.
إن علمية العودة الطوعية التي يقدمها النظام وحلفاؤه إنما هي وسيلة دعاية يستخدمونها لترويج فكرة أن المناطق التي تقبع تحت سيطرته قد أصبحت آمنة وان المهجرين قد بدؤوا بالعودة. الغرض الوحيد من مثل هذه الدعاية هو تخفيف الضغط الدولي عن النظام، بينما يظهر الواقع على الأرض بوضوح أن الوضع الأمني للعائدين والأشخاص فيما يسمى بـ “مناطق المصالحة” ليس سيئا فحسب، بل يزداد تدريجياً إلى الأسوأ مع استمرار القمع المتصاعد..
أخيرًا، تتحدث أمثلة كثيرة مثل هذه من دير الزور عن عنصر أساسيٍّ في أي نقاش حول العودة الآمنة والطوعية والكريمة- كما يوثق تقرير رابطة كرامة “نحن سوريا ” وهو أنّ الغالبية العظمى من النازحين السوريين يريدون رؤية عودة جماعية منظمة باتفاق سياسي شامل يضمن حقوقهم بموجب ضمانات دولية قوية.
تشهد حالات “العودة المتفرقة” تدلُّ على سياسة معاكسة تمامًا ينفذها النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون فهم غير مهتمين بعودة أعداد كبيرة من النازحين السوريين بطريقة آمنة وكريمة، لكنهم يواصلون السماح لعدد قليل من الأشخاص “المقبول بهم ” بالعودة إلى حالة انعدام الأمن وانعدام القانون التي تسود المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام.
إن تأثير هذه السياسات واضح اليوم، حيث لا يزال هناك أكثر من ضعف عدد السوريين النازحين داخليًا مقارنة بالعائدين إلى مناطقهم الأصلية.
لن تغيّر دعاية النظام ولا المؤتمرات الروسية حول العودة الواقع المرير الذي يواجهه السوريون في مناطق سيطرة النظام، كما تشهد حالة دير الزور بوضوح.