الكاتب: أكرم طعمة

منذ عام 2016، استخدم نظام بشار الأسد بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين هجمات عشوائية وحرب حصار للتفاوض على استسلام عدة مناطق كانت تحت سيطرة قوات المعارضة سابقاً. تضمنت العديد من عمليات الاستسلام التي تم التفاوض عليها ما يسمى “بصفقات المصالحة” التي عُرضت في الغالب على الأشخاص المنتسبين سابقاً إلى قوات المعارضة، ولكن في بعض الحالات لجميع السكان الذين اختاروا البقاء بعد استعادة النظام للمنطقة. إن “صفقات المصالحة” هذه، والتي كان من المفترض أن تضمن روسيا تنفيذها، تصور أن أولئك الذين بقوا في المناطق التي استعادها النظام سيستعيدون حقوقهم، ويضمنون عدم التعرض للاضطهاد والمضايقات، والأهم من ذلك التجنيد الإجباري في قوات الأسد لمدة ستة أشهر على الأقل مقابل “اعتراف” مفصل بانتمائهم لقوى المعارضة. أشادت دعاية النظام بهذه الاتفاقات باعتبارها نموذجاً لعودة النازحين السوريين، وغالباً ما تخدع بعضاً من أولئك الذين يعيشون في ظروف صعبة بسبب النزوح.

حذرت الرابطة السورية لكرامة المواطن مراراً وتكراراً من أن “الضمانات” الممنوحة بموجب “صفقات المصالحة” لا قيمة لها وأن الناس في هذه المناطق يواجهون تهديدات يومية واعتقالات تعسفية واختفاء قسري وموت. يظهر البحث أن أحد أكبر مصادر الخطر والمخاوف التي تواجه الناس في “مناطق المصالحة” هو التجنيد الإجباري في جيش الأسد.

تتحدث تقارير وشهادات عديدة عن أمر شائع وهو أن يكون الأشخاص الذين دخلوا “اتفاقات المصالحة” وأسرهم مطلوبين للأفرع الأمنية لكونهم “مرتبطين بعناصر مناهضة للنظام” ومطلوبين في الوقت نفسه للجيش وذلك لإرسالهم لتدعيم الجبهات الخطيرة في إدلب وحماة. وبمجرد تجنيدهم يتم نقلهم على الفور إلى خطوط المواجهة هذه حيث يموتون غالباً على أيدي رفاقهم السابقين أو في ظروف غامضة بعيداً عن الخطوط الأمامية نفسها. أصبح التجنيد الإجباري وسيلة للنظام للتخلص ممن يراهم عناصر مناهضة للنظام تقف في طريق رؤيته المتمثلة في الهندسة الديموغرافية لسكان موالين ومطيعين. تتعدد الأمثلة التي تشهد على طريقة الانتقام هذه ضد الأشخاص الذين “صالحوا”.

نشرت الرابطة السورية لكرامة المواطن بحثاً يوثق مئات القتلى من الشباب المجندين قسراً من “مناطق المصالحة” على أيدي الموالين للنظام انتقاماً لمحاولاتهم اليائسة للهروب من خط المواجهة أو على أيدي رفاقهم وأقاربهم السابقين في معارك في الشمال.

المعضلات الأخلاقية والوجودية المفروضة على الناس في هذه المناطق عظيمة ومفجعة. ويلقي بعض النشطاء باللوم على الشباب الذين وقعوا اتفاقيات المصالحة لاختيارهم الاستقرار مع النظام من أجل البقاء في منازلهم. يتعاطف آخرون معهم، لعلمهم بالظروف الصعبة التي عانوا منها واحتمال الاختفاء القسري شبه المؤكد إذا فشلوا في تقديم عذر إذا تم طلبهم للتجنيد. عالقون بين صخرة التجنيد الإجباري واعتقال رهيب من قبل قوات أمن الأسد إذا رفضوا الاستجابة لداعي التجنيد، فإن النتيجة بالنسبة للكثيرين مرعبة، بغض النظر عن الخيار الذي يتخذونه.

تُظهر إفادات أقارب الضحايا وأصدقائهم المقربين، وملف الضحايا ومسارهم خلال السنوات القليلة الماضية بوضوح أن بعضهم كان يقاتل مع المعارضة المسلحة، بينما عاد البعض الآخر إلى مناطق سيطرة النظام مخدوعين بدعاية النظام ووعود السلامة الروسية، والتي تضخمت أحياناً في روايات بعض المنظمات الدولية العاملة في سوريا.

الضمانات الروسية والتي كانت العامل الحاسم في إقناع العديد من أولئك الذين بقوا في المناطق المشمولة بـ “اتفاقيات المصالحة”، تحصد الأرواح الآن حرفياً. هناك عدد لا بأس به من الحالات لرجال من “مناطق المصالحة” رفضوا الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية – اعتماداً على الضمانات الروسية بعدم إجبارهم على الالتحاق بجيش الأسد لمدة ستة أشهر على الأقل بعد توقيع الاتفاقات – اعتقلوا واختفوا وقتلوا على يد قوات أمن النظام.
في بداية شهر آذار 2019 في ريف حمص قُتل إبراهيم عبيد وطارق زكور ومحمد طارية وأرسلت جثثهم إلى ذويهم، بعد اعتقالهم وذلك لرفضهم التجنيد بعد أقل من ثلاثة أشهر على بدء اتفاق المصالحة الذي حصل برعاية روسيا. واعتقل العشرات من أهالي ريف حمص الشمالي الذين قبلوا بالتسوية ورفضوا الإلتحاق بالخدمة بالجيش بضمانات روسية ولكن ما زالوا في سجون الأسد، بل ومصيرهم مجهول أيضاً.

ولا يعد وضع ريف حمص الشمالي فريداً أو حالة خاصة، إذ تلقى أهالي الغوطة الشرقية 4000 بلاغ استدعاء يأمرونهم فيهم بالحضور للوحدات العسكرية لأداء الخدمة الإلزامية فور بدء سريان اتفاق “المصالحات”. وقد صدر هذا الاستدعاء بالرغم من النص الصريح في الاتفاقية الذي يمنح المواطن تحت الاتفاقية حق المكوث لمدة ستة أشهر قبل أن يتم استدعاؤه للالتحاق بالخدمة العسكرية. فضل عدد كبير من الشباب الذين بقوا في الغوطة الشرقية الانصياع للأوامر لتجنب الاعتقالات التي بدأت تحدث بحق بعض الذين رفضوا الالتحاق.

كما تتعرض مدن وقرى درعا المختلفة لعشرات حالات الاعتقال والتجنيد الإجباري، والتي تعد جميعها انتهاكاً لما تم الاتفاق عليه بين المناطق التي تمت مصالحتها من جهة والروس والنظام من جهة أخرى. القوات الأمنية التابعة للنظام في درعا تعتقل الأشخاص الذين يحملون “بطاقات تسوية” كل يوم. ووثقت مجموعة أحرار حوران 683 حالة اعتقال منذ توقيع الاتفاق في تموز 2018.

الخيار الوحيد للغالبية العظمى من الشباب من “مناطق المصالحة” هو الفرار إلى لبنان أو شمال سوريا أو أي مكان آخر حيث سيكون لديهم فرصة للبقاء على قيد الحياة. لكن مع اشتداد الهجوم الروسي على إدلب، وتزايد المشاعر المعادية للاجئين في لبنان وتركيا، فإنهم يجدون أن احتمالات وصولهم إلى بر الأمان تتضاءل.
ما كان من المفترض أن يكون نموذجاً جيداً لعودة الأعداد الكبيرة من النازحين السوريين أصبح الآن محركاً آخر للنزوح.

بعد ما يقرب من عام على إبرام اتفاق المصالحة الأخير يمكننا أن نرى بوضوح أن نظام الأسد كان قادراً على الاستفادة من الشباب الذين بقوا في “مناطق المصالحة” من خلال تجنيدهم قسراً ونشرهم في الخطوط الأمامية الأكثر عنفاً. إن الجزء الأكثر نشاطاً من السكان في المناطق التي كان من الممكن أن تقدم نوعاً من المقاومة لسياساته يتم طمسها بهذه الطريقة. في الوقت نفسه تواصل قوات النظام الأمنية اعتقال وقتل الأشخاص من هذه المناطق الذين تعتبرهم تهديداً مباشراً لسلطته. هذه الاعتقالات والقتل تتم في مخالفة صريحة لبنود الاتفاقات التي ضمنتها روسيا، وتشهد على السياسات الانتقامية للنظام التي تستهدف كل من كان محسوباً في السابق على المعارضة.

مناطق “اتفاقيات المصالحة” هي اليوم من بين أكثر المناطق الخطيرة وغير الآمنة في دولة الأسد الفاشلة. الاعتقالات والاختفاء القسري والتجنيد الإجباري والتي هي في واقعها عقوبة إعدام، هي أحداث يومية. بعيداً عن كونها نموذجاً لعودة ملايين النازحين واللاجئين السوريين، فهذه التصرفات توفر تحذيراً للمجتمع الدولي من أن أي حل يجلب الأمل في سلام دائم في سوريا يجب أن يتضمن آلية دولية قوية لمراقبة وضمان حقوق جميع السوريين، وخاصة أولئك الذين كانوا فعلياً في الطرف الذي يتلقى ضربات الأسد الإجرامية.