تعتبر مدينة حماة وسط سوريا، من أبرز مواطن العشوائيات. ويعود ذلك إلى عقود من الجمود في الحركة العمرانية في المدينة، بسبب قرارات حكومية غير مفهومة، أوقفت عمليات إفراز الأراضي اعتباراً من العام 1975، وعطّلت توسعة المخطط التنظيمي للمدينة.
لم تخضع الاستملاكات الواسعة ضمن مدينة حماة، في العام 1982، للكثير من التغطية الإعلامية والحقوقية، غالباً بسبب التغييب والاختفاء القسريين لمعظم أصحاب الحقوق أثناء اجتياح قوات النظام لمركز المدينة التاريخي. كما أن غياب الوثائق، والقرارات الرسمية المتعلقة بالاستملاكات، يشير إلى رغبة الجهات الرسمية السورية إلى طمس الموضوع.
وقد تسبب الاستخدام المفرط وغير المتناسب للقوة خلال العمليات العسكرية التي نفذتها قوات النظام، في شباط 1982، بغرض قمع الانتفاضة المسلحة في مدينة حماة، بتدمير بعض أحيائها السكنية والتجارية والتاريخية. وقد شهدت تلك الأحياء قصفاً عنيفاً بالطّيران الحربي، نظراً لما شهدته من مقاومة لقوات النظام. وتشمل المناطق التي خضعت للتدمير الكامل كلاً من أحياء الكيلانيّة، بين الحيرين، الزّنبقيّ، الشّرقيّة والباروديّة، وكانت تمتد على مساحات واسعة ضمن مركز مدينة حماة. حي الكيلانية كان أحد الأحياء الأثرية المشهورة بقصوره التاريخية.
وبعد تسوية هذه الأحياء بالأرض، استملكت الدولة الأراضي التي كانت تلك الأحياء مشادة عليها، ومنعت من بقي حياً من السكان من إعادة إعمارها. لا بل طُلِبَ ممن تبقى من أهالي المنطقة الانتقال إلى بيوت أقاربهم في الأحياء الأخرى، من دون تأمين مساكن بديلة، أو دفع أي تعويض لهم.
ومع تواصل النمو السكاني، تسبب كل ما سبق، بارتفاع كبير في أسعار العقارات والشقق السكنية داخل المدينة. ودفع ذلك بالسكان للجوء إلى خيارات بديلة، كإشادة مناطق المخالفات الجماعية “عشوائيات” على أطراف المدينة، والتي يسميها الحمويون بالمشاعات.
استمرت قوات النظام بوضع يدها على تلك الأحياء، من دون أي مستند قانوني، حتى تشرين الأول 1986، عندما صدر قرار مجلس الوزراء رقم 2462 باستملاك المنطقة بالاستناد لقانون الاستملاك رقم 20 لعام 1983. وطال قرار الاستملاك أيضاً عشرات العقارات غير المتضررة ضمن المدينة، والواقعة خارج الأحياء المدمرة، بسبب شبهات تتعلق بالتوجهات السياسية المعارضة للنظام لأصحاب الأملاك.
القانون 20 كان قد أعطى جميع الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة، بما فيها وزارة الدفاع، حق الاستملاك للأملاك الخاصة بموجب النفع العام. وعدا عن عدم تحديد ما هو النفع العام المُتأتي من استملاك المنطقة، فقد تأخر قرار الاستملاك أربعة أعوام بعد تدمير تلك الأحياء، ما كان كافياً لتعفيش محتويات تلك الأحياء، وسحب أنقاضها وتدويرها من قبل قوات النظام. وبحسب مصدر حقوقي مطلع، لم يوضح قرار الاستملاك رقم 2462 من هي الجهة المُستملكة، ولا فنّد أسباب الاستملاك. قرار الاستملاك لم يرصد حتى الميزانية اللازمة لدفع تعويضات الاستملاك لمن بقي حياً من أصحاب الحقوق وورثتهم. لم يتم نشر القرار 2462 وذلك لأسباب أمنية بغرض التستر على حجم الدمار الذي لحق بالمدينة.
بعد الاستملاك، أقيمت على أراضي حي الكيلانية مباني لجهات ومؤسسات عامة وحزبية كقيادة فرع شرطة حماة، وفرع حزب البعث، وفندق أفاميا والحدائق المحيطة به. في حين خصصت أجزاء من أراضي أحياء بين الحيرين والشرقية والبارودية، لإشادة دائرة الأحوال الشخصية، ودائرة البريد، وسوق شعبي ومدرسة بالإضافة لمحطة انطلاق حافلات عامة، وبعد العام 2003 أضيف إليها مشروع للسكن الشبابي.
وبعد أول زيارة لبشار الأسد إلى مدينة حماة، وفيما يُشبه مصالحة متأخرة مع المدينة المنكوبة، أصدر المرسوم رقم 123 لعام 2000، والذي نشر في الجزء الأول من العدد 32 لعام 2000 من الجريدة الرسمية، حيث نص المرسوم على العودة عن قرار الاستملاك لبضعة مئات من العقارات المستملكة جزئيا أو كلياً، والمتناثرة بشكل عشوائي في المدينة والتي لم يتم البناء عليها. وشجّع ذلك كثير من الأهالي على رفع دعاوى لتحصيل حقوقهم المتأخرة 18 عاماً، بما فيها تعويض بدلات الاستملاك أو السكن البديل.
ومع انطلاق الانتفاضة السورية في العام 2011، شكلّ بعض تلك العشوائيات مراكز تجمّع للمتظاهرين، ومناطق آمنة يلجأ لها المطلوبين أمنياً. ويعود ذلك بسبب تداخل أبنيتها، وعدم انتظامها، وتخوّف القوى الأمنية من دخولها بسبب كثافتها السكانية وامتدادها الجغرافي المفتوح باتجاه الأرياف الحاضنة للثورة.
في العام 2012، وبعد إحكام النظام سيطرته على مدينة حماة بالكامل، تمّ هدم كامل مشاعي الأربعين (المساحة المهدومة التقديرية: 40 هكتار) ووادي الجوز (المساحة المهدومة التقديرية: 10 هكتار)، لكونهما مناطق مخالفات خارج المخطط التنظيمي. في حين أن الهدف وراء الهدم كان سياسياً-أمنياً، بسبب ما شكّلته تلك المشاعات من حاضنة للثورة. حيث قالت سيدة من سكان حي مجاور للمشاع:
“بعد الهدم، جاء الجيش إلى حينا وقالوا عبر مكبرات الصوت إنهم سيدمرون حينا كما دمروا وادي الجوز ومشاع الأربعين إذا انطلقت رصاصة واحدة من هنا”
ومشاع الأربعين شمالي حي الأربعين، امتد على مسافة 3 كيلومترات على طول مدخل حماة الشمالي، وكان يعتبر من أكبر مشاعات المدينة كموطن لحوالي 40000 نسمة سكنوا منازل غير طابقية، تفتقر بشكل شبه كامل للخدمات. المشاعات كانت مبنية على أراض كانت زراعية ذات ملكية خاصة على الشيوع وغير مشمولة بالمخطط التنظيمي. الأمر ذاته ينطبق على مشاع طريق حلب المعروف باسم “مشاع وادي الجوز” شمالي المدينة مقابل مساكن الضاهرية.
وقالت صاحبة منزل تم هدم منزلها:
“رأينا جرافات تقترب من حينا لكننا بقينا في منزلنا لأننا لم نتخيل أنهم سيدمرون جميع المنازل. وبعد يومين حان دورنا. تركنا كل أغراضنا. كنا نخشى البقاء ثانية أخرى لأن منزلنا كان يرتج بينما تدمر الجرافات المنازل القريبة. وحين اقتربت الجرافات من منزلنا، خرج زوجي للتحدث مع جنود الجيش. كان زوجي يتوسل إليهم للإبقاء على منزلنا لكنهم صاحوا: “نريد أن نهدم، نريد أن نهدم”. ولم يشرحوا لنا ما يحدث”
أيضاً، قررت محافظة حماة في أيلول 2018، وبذريعة المخالفات، هدم كامل حي النقارنة جنوبي مدينة حماة، بما فيه من سكن عشوائي، ومنطقة السكن المنظم التي سبق وأقامتها جمعيات سكنية. واستمر الهدم لأسبوع كامل. ومشاع النقارنة، كان قد أقيم على أراض زراعية تم استملاكها في العام 1983، لصالح الدولة.
يقول أبو محمد (55 عاماً) من سكان مدينة حماة: «انتظرت استلام المنزل منذ 12 عاماً، بالأمس كانت الآليات تحفر الأساسات وتشيد الأعمدة، واليوم تقوم بهدمها»، وعند استفساره عن الأمر، قيل له إن «القرار كان قد اتخذ من قبل الحكومة، وتم توجيه مجلس المدينة بهدم الحي بالكامل». يضيف أبو محمد: « هكذا تم القضاء على حلمي الذي انتظرته طوال تلك السنوات، بامتلاك مأوى لأولادي دفعتُ أقساطه من راتبي، وحرمتُ نفسي وعائلتي من أساسيات كثيرة في سبيل تحقيقه». كل ما كان يرجوه الرجل وزوجته، التي تروي تجاعيدُ وجهها حكاية سنوات الانتظار الطويلة، هو «شرب فنجان من القهوة كل صباح على شرفة منزل عائد لهم، يطلّ على أحياء المدينة» كما تقول أم محمد.
يضيف عبد اللطيف وهو أحد سكان الحي:
“لقد غادر ما يزيد على نصف المكتتبين في جمعيات مشاع وادي النقارنة المدينة إلى المناطق المحررة أو الدول المجاورة وهؤلاء ليس لديهم القدرة للعودة والدفاع عن حقوقهم، لأنهم سيتعرضون للاعتقال لحظة عودتهم.”
على عكس المشاعات السابقة، فقد تمّ الإبقاء على مشاع حارة الطبّ ومشاع الطيار، اللذين تقطنهما غالبية موالية للنظام وفيهما العشرات من منتسبي اللجان الشعبية. وتجاهلت محافظة وبلدية حماة قرارات الهدم وشق الطرق الحيوية فيهما. لا بل إن هذين المشاعين شهدا توسعاً عمرانياً خلال السنوات الماضية.
يجدر التنويه إلى أن أحد مطالب ممثلي الأهالي في حماة بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011، كانت العودة عن قرار الاستملاك رقم 2462 لجميع العقارات، والتعويض على أصحابها. وهذا ما لم يحدث بطبيعة الحال.
وآخر ما حرر في هذا الموضوع هو عزم مجلس مدينة حماة على القيام بهدم /430/ منزلاً في المدينة وتشريد أهلها، ولاسيما في هذا الوقت بالذات في فصل الشتاء القاسي الذي تمر به البلاد. حيث تقدم النائب محمد عبد الكريم بشكوى أمام مجلس الشعب في جلسته البرلمانية أمس الخميس أكد فيها أن شرطة وعمال مجلس مدينة حماة يقفون اليوم على عتبة /430/ منزلاً لهدمها وتشريد أهلها.
وأوضح النائب عبد الكريم أن السبب الذي يستند إليه مجلس المدينة هو “إعمار سور جامعة حماة التي تبلغ مساحة أرضها المستملكة /1600/ دونم”.
ولفت النائب إلى أن البيوت المهددة بالهدم تقع على طرف سور جامعة حماة الذي لم يتم إنجازه بعد، علماً أن بإمكان القائمين على أعمال البناء في الجامعة الابتعاد /50/ متراً لتجنب هدم هذه المنازل التي تم استملاكها جبراً بسعر /35/ ليرة سورية للمتر الواحد.
ولا يزال من تعرضوا لمصادرة عقاراتهم في العقود الماضية لا يرون أي طريق للحل نحو العدالة بأي شكل، والكثير منهم يعاني بصعوبة في ظروفهم المعيشية.
- صورة الغلاف: محافظ حماة أثناء إشرافه على هدم منازل في محافظة حماة