اندلاع أحداث 7 أكتوبر 2023: شرارة النزوح المتجدد
منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر 2023، حيث بدأت المواجهات العسكرية بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، تصاعدت وتيرة العنف في المنطقة، متسببة في تداعيات إنسانية واسعة النطاق. لم يكن السوريون بمنأى عن هذه الأحداث، حيث اضطر العديد منهم -والذين نزحوا سابقاً إلى المناطق الحدودية الجنوبية من لبنان- للهروب نحو شمال لبنان بحثًا عن ملاذ آمن. تزايدت حركة النزوح بشكل كبير بعد أن توسعت الأعمال العدائية لتشمل الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان، مما دفع الآلاف من السوريين إلى الفرار من الموت والقصف إلى المناطق المجاورة، هربًا من خطر الاقتتال المتصاعد.
العودة القسرية إلى حضن النظام السوري: خيار بين النارين
وفي ظل هذا النزوح الجماعي، وجد الآلاف من السوريين أنفسهم بين خيارين كلاهما مر: إما مواجهة قصف الغزو الإسرائيلي، أو العودة إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري. العودة لم تكن طوعية واختياراً، بل هروباً آخر من موت محتم. لكن العائدين إلى تلك المناطق لم يجدوا أماناً في ظل النظام السوري؛ بل وقعوا في قبضة القمع الذي لم يرحمهم.
وفقًا لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في 2 أكتوبر 2024، فإن اللاجئين العائدين من لبنان تعرضوا للاعتقال عند المعابر الحدودية، الرسمية وغير الرسمية، وتم اقتيادهم إلى مراكز الاحتجاز. البعض منهم نجا من قنابل العدو، ليجد نفسه في زنازين النظام، في انتظار مصير مجهول.
استمرار النزوح نحو الشمال السوري: الهروب إلى اللااستقرار
رغم وعود النظام بتسوية الأوضاع الأمنية للعائدين، لم يتمكن هؤلاء من البقاء طويلاً في مناطقه. الفئة الأكبر، خاصة الشباب، هربوا مجددًا نحو شمال سوريا، بحثًا عن شبرٍ من الحرية في مناطق تسيطر عليها الفصائل المعارضة، ولتفادي خطر الاعتقال أو الاستدعاء لمراجعة الفروع الأمنية للنظام السوري، وهو ما حدث بالفعل مع العديد من العائدين، حيث أكد فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، توثيق 17 حالة اعتقال لعائدين من لبنان، مع وجود معلومات عن عشرات الحالات الأخرى قيد التحقيق. عمليات الاعتقال هذه تمت على حواجز مؤقتة أقامتها قوات النظام على الطرق المؤدية إلى مراكز الإيواء، أو بعد استدعاء العائدين لتسوية أوضاعهم.
الأرقام الصادرة في 12 أكتوبر في تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) تكشف حجم هذه المأساة: أكثر من 21 ألف شخص وصلوا إلى الرقة ودير الزور والحسكة قادمين من لبنان، بينما توجه حوالي 3,500 إلى إدلب. ورغم كل هذه الرحلات المرهقة، لا يبدو أن الأمان قريب، إذ تتزايد التهديدات الأمنية والاقتصادية، لتجعل من النزوح حلاً مؤقتاً لا ينهي مأساة هؤلاء.
شبح التغيير الديموغرافي في مناطق النظام:
ومع تدفق النازحين من جنوب لبنان، خاصة من الطائفة الشيعية، إلى مناطق سنية في محافظات حمص وحماة وغيرها، تصاعدت التوترات بين النازحين الشيعة والسكان السنة المحليين. حيث شوهدت مقاطع فيديو توثق تظاهرات في الأسواق العامة، تردد فيها عبارات استفزازية مثل “شيعة شيعة”، مما يزيد من التوترات الطائفية ويهدد بحدوث مواجهات بين الطرفين. هذا المشهد يثير مخاوف حقيقية من تغيير ديموغرافي قد يشعل نار الفتنة بين السكان.
تصاعد الأعمال العدائية على شمال غرب سوريا:
منذ منتصف أكتوبر 2024، شهدت مناطق شمال غرب سوريا تصعيداً غير مسبوق في القصف الجوي والمدفعي. ديفيد كاردن، نائب منسق الشؤون الإنسانية للأزمة السورية، صرح بأن المنطقة شهدت 122 هجوماً خلال ثلاثة أيام فقط، حيث استهدف 115 منها إدلب وغرب حلب، بما في ذلك المناطق السكنية والأسواق المحلية والأراضي الزراعية. وأدى هذا التصعيد إلى مقتل 12 مدنياً، بينهم ثلاثة أطفال دون سن العاشرة، بالإضافة إلى إصابة 27 آخرين. كما توقفت العديد من الأنشطة الإنسانية والخدمات الصحية في المنطقة بسبب تزايد الهجمات. ومع كل قذيفة تسقط، تُغلق أبواب المدارس والمستشفيات وتتعطل الأنشطة الإنسانية.
عودة اللاجئين: دعوات دولية تتجاهل الواقع
رغم هذا الوضع الكارثي وهذه الفوضى المتصاعدة، تستمر بعض الدول بالدعوة إلى إعادة اللاجئين إلى مناطق النظام السوري، في تجاهل صارخ للواقع على الأرض. دعوات مثل تلك التي تصدر من إيطاليا والنمسا وغيرها لا تأخذ في الحسبان أن هؤلاء العائدين لا يعودون بإرادتهم، بل يُجبرون على العودة إلى مناطق مدمرة ومخنوقة بالقمع الأمني والانهيار الاقتصادي. هذه الدعوات تتجاهل أن هذه العودة كانت قسرية، وأن المناطق التي يُعاد إليها اللاجئون غير آمنة من قبل النظام السوري نفسه ومعرضة للقصف الإسرائيلي أيضاً، مما يدفع العائدين إلى محاولة الهروب مجدداً، سواء إلى أوروبا ودول الجوار أو إلى مناطق الشمال السوري.
الحل السياسي: الغائب الأكبر
وسط كل هذا الموت والنزوح، تظل الحلول السياسية بعيدة المنال. ما زال السوريون يتأرجحون بين نيران الحروب، ومخاطر الاعتقال، وعبء الهروب المستمر بحثاً عن حياة أفضل. رحلتهم المأساوية مستمرة، وقد تطول ما لم يبرز حل حقيقي يعيد لهم الكرامة والأمان.
مع غياب أي محاولات دولية جادة لحل الأزمة، يجد السوريون أنفسهم عالقين بين خيارات صعبة، ما بين النزوح، والاعتقال، أو الهروب بحثًا عن الأمان. يبقى النزوح جزءاً لا يتجزأ من حياة السوريين، ويبدو أن رحلة المعاناة ما زالت طويلة.
تؤكد الرابطة السورية لكرامة المواطن أن أي عودة للسوريين إلى سوريا يجب أن تكون آمنة، طوعية، وكريمة، بعيداً عن الضغوط السياسية أو العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية أو العنصرية أو غيرها. إن الحل يكمن في تأمين بيئة آمنة وفق تعريف السوريين أنفسهم، تكون حجر الأساس في أي حل سياسي شامل ومستدام لسوريا.