إن الوضع في سوريا لا يوصف، فرغم الظروف المأساوية التي يعاني منها السوريون في النزوح سواءً في الداخل أو في الدول المضيفة، إلا أنهم لا يزالون غير راغبين بالعودة، باستثناء قلة منهم مجبرون على العودة لأسباب مختلفة. يعود السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى حقيقة أن الظروف التي أدت إلى النزوح في الأصل لا تزال موجودة اليوم، ولا يزال النظام السوري يضطهد السوريين في المناطق التي يسيطر عليها. 

حيث أطلقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي المنظمة الرائدة في الأمم المتحدة فيما يتعلق بعودة اللاجئين السوريين، في شهر فبراير/ شباط عام 2018 الاستراتيجية الشاملة للحماية والحلول (CPSS) فيما يتعلق بالشأن السوري بناءً على عدد من الحدود الدنيا للحماية التي قالت أنها يجب تتوفر قبل الحديث عن أي عودة كريمة وآمنة للاجئين والنازحين في الداخل.  

ويتمثل موقف المفوضية في وثيقة الاستراتيجية أن “الظروف الحالية فـي سـوريا لا تعد مؤاتية للعودة الطوعية بأمان وكرامة”.  

وقد أثبتت الأبحاث والتقارير المنتظمة للرابطة السورية لكرامة المواطن التي أجرتها مع منظمات سورية ودولية أخرى، بما فيها الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، أن الغالبية العظمى من العتبات الدنيا للحماية بعيدة كل البعد عن التحقق على أرض الواقع، مشيرين إلى صورة مؤلمة لأي من اللاجئين أو النازحين داخلياً وهم مجبرون على العودة قبل توفر الحد الأدنى من الشروط المطلوبة. وتحديداً الحدود الدنيا التي تنص على “ضمان سلامة اللاجئين والعائدين جسدياً وقانونياً ومادياً” و”أن يكون قرار كل فرد بالعودة مستنيراً وطوعياً حقاً ودون أي إكراه” هي أمور تبدو بعيدة كل البعد عن أن تتوفر. وطالبت الرابطة السورية لكرامة المواطن مراراً وتكراراً بأنه يجب على المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن تقدم تقاريراً عامة بشأن هذا الواقع إلى النازحين السوريين لكي يتمكنوا من اتخاذ قراراً مستنيراً بشأن العودة، وكذلك إلى المتبرعين وصناع السياسة الدوليين. ولكن دون جدوى. 

وبدلاً من ذلك قدمت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مسودة لوثيقة “إطار العمل الإقليمي” في مارس/ آذار عام 2019 تضمنت مؤشرات على الحدود الدنيا ولكنها اجرت تعديلات هامة عليها، منها حذف البعض بالكامل وتعديل صياغة البعض الآخر وتوسيعها ودمج بعض الحدود الدنيا مع بعضها. حيث لم يتم الإعلان عن الوثيقة إلا بعد مرور ستة أشهر. وقد تسببت التغييرات الطارئة بحدوث لبس بشأن ماهية الحدود الدنيا للحماية بالضبط.  

إن الحدود الدنيا المحذوفة كانت تتناول شأن تقليل الصراعات المشتعلة، والحاجة إلى اتفاق بين الحكومات والمنظمة، ونيل اللاجئين العدالة وتطبيق القوانين، وإزالة الألغام والذخائر غير المتفجرة (UXO). فلم يحدث أي تغيير بالمقابل في الظروف على الأرض يستدعي إجراء هذه التغييرات على الوثيقة. ويبين البحث الذي أجرته الرابطة السورية لكرامة المواطن أن الحدود الدنيا والعبارات المحذوفة تتعلق بالحدود الدنيا غير المتوفرة حالياً حيث تشكل الانتهاكات والمخاوف الأمنية هاجساً بالنسبة للعائدين الذين أجروا الاستبيان. 

تعتقد الرابطة السورية لكرامة المواطن أن هذه التغييرات ليست مبررة وأنها تقلل من مستوى الأمن والحماية الأساسي التي يجب أن يتوفر قبل الحديث عن العودة. وأشار مسؤولون في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في اتصالات مباشرة إلى أنه سيتم الرجوع إلى اللغة المستخدمة في الاستراتيجية الشاملة للحماية والحلول (CPSS) لعام 2018 فيما يتعلق بالحدود الدنيا الأصلية للحماية، ولكننا لم نرى شيئاً من هذا على أرض الواقع.  

وإنما نراه في الواقع هو تسارع في التخطيط لمبادرة شائكة للغاية تدعى “خارطة الدعم حسب المنطقة” تتألف من نهج موازٍ لإطار العمل الحالي وقد تتسبب في وضع أرواح النازحين السوريين في خطر لا مثيل له.  

 إن التخطيط الذي يجري الآن من أجل “خارطة الدعم حسب المنطقة” يجري سرياً في الخفاء ويستثني تماماً مشاورة النازحين السوريين. ووفق ما توصلنا إليه من معلومات، فقد تمت المصادقة على خطة التنفيذ في شهر أبريل/ نيسان عام 2022، وقد تضمنت خططاً ملموسة لمشاريع تجريبية لعودة النازحين السوريين إلى عدة مناطق معظمها تحت سيطرة النظام، وذلك دون إجراء أي تغيير جذري على الظروف الراهنة ودون تحقق الحدود الدنيا للحماية التي وضعتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بنفسها. والأسوأ من ذلك أن المبادرة تمنح النظام السوري المسؤول عن نزوح ملايين السوريين، دوراً جوهرياً في تحديد آلية تنفيذ العودة بما في ذلك آلية توزيع المساعدات الإنسانية.

 وهذا أمر مدهش بحد ذاته. حيث لم يمضي سوى بضعة أشهر على قيام الرابطة السورية لكرامة المواطن (SACD) ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بنشر تقارير بشأن تحويل المعونات إلى سلاح من قبل النظام، مع استنتاجات واضحة تبين مدى تدخلات النظام المتنوعة بدءاً من التأثير بشكل مباشر على توزيع المعونات وتحديد المستفيدين (وغير المستفيدين) من مشاريع مختلفة، مروراً بتعيين أشخاص مقربين من النظام في مناصب حساسة ومؤثرة في هذه المنظمات من أجل السيطرة ومراقبة عملهم، ووصولاً إلى الاستيلاء المباشر على المعونات من قبل عساكر النظام وميليشياته، وأحياناً يكون الأمر بنسبة أعلى مما يصل إلى المستفيدين المستهدفين الحقيقيين. إن قبول هذه النوع من التدخلات يكتسح كل المنظمات الخيرية سواء الدولية منها أو السورية. واليوم هناك تضامن خطير بين هذه المنظمات ومؤسسات النظام. ولقد تلقينا تأكيدات جدية من الحكومات المتبرعة بأنه سيتم اتباع آلية مراقبة إقليمية من أجل الإشراف على قطاع المعونات بهدف ضمان إيقاف هذا النوع من الممارسات. ولا يوجد دليل على قيامهم بذلك. 

 يحتوي هذا النهج على العديد من الإشكالات إذ أنه ينطلق من الواقع الحالي الذي تم وصفه سابقاً بأنه أساس العودة، وذلك دون أي اتفاق سياسي ينص على ضمانات دولية لخلق بيئة يمكن وصفها بكل وضوح بأنها بيئة آمنة وطبيعية وهادئة، حيث يجب تنفيذ الشروط الدنيا المطلوبة قبل الحديث عن أي عودة آمنة وطوعية وكريمة. ويجازف هذا النوع من التخطيط بالإطاحة بأي حل سياسي مستقبلي تكون دعامته الأساسية هي العودة الآمنة والكريمة لأكثر من 13 مليون نازح سوري، مما يشكل أكثر من نصف التعداد السكاني للبلاد. وإننا نطالب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وكل الأطراف المعنية بهذه العملية بالرجوع إلى إطار العمل الراهن المنصوص عليه في الاستراتيجية الشاملة للحماية والحلول الصادرة عن المفوضية، وتحقيق شفافية تامة واستشارات حقيقية مع النازحين السوريين عند التخطيط لأي نشاط يتعلق بالعودة. 

 سيقود منهج “حلول العودة حسب المنطقة” (ABRS) إلى ممارسة المزيد من الضغط على اللاجئين في الدول المضيفة، بما في ذلك زيادة خطابات الكراهية والأعمال اللاإنسانية التي تستهدف اللاجئين. حيث يتم استغلال هذه الأمور من قبل الأطراف السياسية في دول مثل لبنان وتركيا لأغراض سياسية، بينما في الواقع لن يتمكن اللاجئون من العودة. 

ووسط كل ذلك، نذكر أن اللاجئين والنازحين داخلياً لا يستطيعون الوصول حتى إلى معلومات مستقلة أساسية بشأن الوضع الحقيقي في مواطنهم الأصلية. وقد صرح 87% أنهم حصلوا على المعلومات التي يحتاجون إليها لاتخاذ قرارهم بشأن العودة، بينما قال حوالي 20% فقط بأنهم كانوا على علم بإجراءات العودة المحفوفة بالمخاطر وأن معظمهم اعتبرها عائقاً للعودة فيما بعد. مما يعني أن النازحين يقدّرون جودة وعمق المعلومات المتوفرة لديهم أكثر مما يجب فيما يتعلق باتخاذ قرارات العودة. 

 وفي هذا السياق نجد أن الرسالة الموجهة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى النازحين السوريين مليئة بالإشكاليات. وأحياناً حتى كبار المسؤولين في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يتحدثون خلال زياراتهم إلى سوريا عن “عودة الناس وزيادة استقرار الوضع الأمني” أو يشيرون إلى واجب النظام السوري في توفير الأمان للعائدين. هذه الرسالة التي لم تشتمل حتى على ذكر بسيط للتهديدات الأمنية التي يواجهها الناس في مناطق سيطرة النظام، تتعارض بشكل مباشر مع الوضع على أرض الواقع وقد تؤدي إلى المخاطرة بأرواح الناس، خصيصاً مع تفاقم الوضع الصعب الذي يتحمله اللاجئون السوريون في لبنان وتركيا وغيرها. 

فإذا قام نازح سوري يواجه في الوقت الراهن ظروفاً معيشية سيئة بسبب النزوح أو الضغط الناجم عن المزاج القائم ضد اللاجئين في دول مثل لبنان أو تركيا، بقراءة هذه الرسالة الصادرة عن المنظمة التي من المفترض أن تكون مصدر المعلومات الأكثر دقة ووضوح بشأن مسألة العودة، فمن البديهي أن نتوقع أنه سيتوصل إلى أن العودة آمنة. ربما تكون صعبة ولكنها آمنة.  

إن الإقصاءات المقصودة من هذه الرسالة بشأن ما يحدث الآن من اعتقالات تعسفية واختفاءات قسرية ومضايقات تطال السوريين في مناطق سيطرة الأسد لا يمكن تفسيرها سوى أنها فشلاً ذريعاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مهمتها التي تتمثل في “إيصال معلومات دقيقة ومحدثة إلى من يفكرون بالعودة بشأن الوضع في الواقع وانعدام الأمان وقيود الوصول، مما تسبب بدفع النازحين لاتخاذ قرارات العودة بناءً على معلومات ضئيلة، لذا لا يمكن لهذه العودة أن يتم اعتبارها طوعية.” 

ولعل أفضل مثال يشرح تلك الحقيقة هو محافظة درعا التي سجلت كما يبدو العدد الأكبر من العائدين بحسب برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية (HNAP) الذي أجرته الأمم المتحدة، وهي في الحقيقة تشهد حرفياً مظاهرات واشتباكات مع قوات أمن النظام وسط شنه حملة من الاعتقالات التعسفية والتجنيد القسري بحق العائدين. ولقد تم توثيق هذا بشكل جيد من قبل لجنة تحقيق الأمم المتحدة وتم إصدار تقارير عامة عنه بشكل يومي تقريباً.  فالناس في درعا يهربون من البلاد اليوم بأعداد كبيرة مشكلين أحد أكبر الموجات التي تحاول الوصول إلى أوروبا في هذه اللحظة.  

ولكن لا تبدو هذه المعلومة ذات صلة بالنسبة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حتى تذكرها في تقاريرها. بل تستمر المفوضية بتجاهل البيانات الدامغة بشأن الواقع المأساوي الذي يستقبل العائدين، وتبلغ متبرعيها المحتملين بأنها سوف تغير استراتيجيتها من “الاستجابة الإنسانية الطارئة إلى العودة وإعادة التوطين وتوسيع الخدمات المقدمة إلى العائدين السوريين.” وإن الأثر الذي يخلفه هذا الأمر هو جدّيٌ ومثير للقلق إلى حد كبير، فقد أكد اللاجئون الذين أجرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بنفسها مقابلات معهم بشدة على أن “التحسينات في الوضع الأمني، ولم شمل العائلات، وامتلاك فرص معيشية في سوريا هي الأسباب الرئيسية التي تؤثر على قرارهم بالعودة.” وبحسب تقاريرنا فهذا أبعد ما يكون عن الصواب، فقد فشلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بنقل المعلومات إلى الناس الذين من المفترض أنها تحميهم لكي يتمكنوا من اتخاذ قراراً مستنيراً بشأن العودة. بمجرد اتخاذهم لهذا القرار ومواجهة حقيقة الاعتداء والاضطهاد والظروف المعيشية السيئة وعدم توفر الخدمات الأساسية أو الفرص الاقتصادية، فإن هنالك 68% منهم يندمون على قرار العودة بصرف النظر عن الوضع الصعب الذي كانوا يعانون منه في النزوح وينصحون النازحين واللاجئين الآخرين بأن لا يعودوا. 

 ومع وضع ذلك بعين الاعتبار:  

  • تدعو الرابطة السورية لكرامة المواطن إلى الرجوع الفوري للحدود الدنيا الصادرة في فبراير/ شباط 2018 في إطار العمل الإقليمي المعدل، وإلى شفافية مطلقة وتقارير يتم تقديمها إلى النازحين السوريين المتأثرين بشأن الإفصاح عن القدر الذي تم توفيره من الحدود الدنيا.  
  • حيث يجب أن تكون المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين واضحة بشأن حدود قدرتها على الوصول والمراقبة، ويجب عليها إبراز الثغرات المعرفية والمخاطر التي تنطوي عليها عدم قدرتها على الوصول والمراقبة. ويجب على المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن تطالب بالتمكن من الوصول وأن تجعله شرطاً أساسياً لا بد أن يتحقق قبل أية مناقشات أو أعمال تخص العودة في المستقبل. وينبغي على المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن تستخدم معلومات مرتبطة بالسياق فقط من أجل مراقبة الظروف، ويجب عليها أن تراقب تنفيذ التشريعات والتصريحات، إضافة إلى مراقبة التصريحات ذاتها. ويجب أن تعمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مع منظمات مثل الرابطة السورية لكرامة المواطن من أجل إنتاج وتوزيع الأبحاث ومعلومات الرصد على اللاجئين السوريين بشأن المخاوف والشروط الأمنية إلى أن تكون قادرة على القيام بذلك بنفسها.  
  • وتطالب الرابطة السورية لكرامة المواطن بشفافية مطلقة بشأن ما يعرف بمخطط “دعم العودة حسب المنطقة” الذي يرقى إلى اعتباره مساراً موازياً للعودة، مما يجعلنا نشكك إلى حد كبير في جدوى المناقشات في إطار العمل الإقليمي الجديد.  
  • ويجب توفير معلومات دقيقة ومفصلة في أوانها إلى منظمات المجتمع المدني واللاجئين فيما يتعلق بالحدود الدنيا للحماية والظروف في مناطق العودة وتجارب العائدين من اللاجئين والنازحين داخلياً من خلال منصات عامة لكي يتمكنوا من الوصول إليها بأنفسهم حينما يدرسون قرار العودة. فلا يمكن اعتبار العودة مستنيرة أو طوعية مالم يأتي ذلك الوقت الذي يتم فيه توفير هذه المعلومات.  
  • والعودة الفورية إلى لغة عام 2018 ضمن المرحلة الأولى من الاستراتيجية، حيث يتم التأكيد على أنه لا يجب التشجيع على العودة أو تقديم التسهيلات لها إلى أن توفر الظروف خيار عودة كريمة وآمنة وطوعية، ويجب التوقف عن وضع برامج قد تشجع أو تسهل العودة غير الآمنة والسابقة لأوانها. 

لقراءة الإحاطة كاملةً انقر هنا: 

صورة الغلاف: المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي يزور الدمار في مدينة صوران ويتحدث مع شاب عائد فيها، سوريا. © المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين