عفراء هاشم
من أين أبدأ معكم قصتي! وقصتي تبدأ مع النهايات الحزينة والموجعة لمدينة غيبتها الخيانات واغتالها الخذلان.
مدينتي حلب مليئة بالتناقضات، أشبعها المجرمون ببراميل حقدهم مثلما أشبعناها تعلقا وعشقا ورغبة في الحياة، حلما بمستقبل ملؤه العدل والكرامة والحرية.
في خريف 2016، كانت المدينة تنزف وتودّع أبناءها، عرف سكانها كل أنواع الموت بكافة الأسلحة. كان الناس متعبون جدا، متعبون من الموت ومن العجزعن إنقاذ من دفن تحت ركام القصف الروسي الذي لا يرحم، أو حتى انتشال جثث أبنائهم لدفنهم كما يجب، وجوههم شاحبة مرهقة من قلة النوم، والأطفال الصغار يبكون من الجوع، زاده تأثيرا الحصار الخانق الذي تتعرض له المدينة منذ ثلاثة أشهر والذي حرمهم من أبسط مقومات الحياة. وهناك… هناك على أطراف المدينة حرب مليئة بالأسرار تدار، أما الأرواح فلا قيمة لها في عرف الطغاة.
عذّبتني تلك الوجوه الباحثة عن الخلاص بعد أن كانت المدينة بثورتها وثوارها مصدر الأمل. عذّبتني نظرات تلك المرأة التي استوقفتني بحثا عن جواب لسؤال أعجزني قهرا: لماذا لا تستسلمون وتعترفون بالهزيمة؟! أردت أن أصرخ بأننا سنبقى وسيطلع النهار.
النهار !، كانت حياتنا قبل عام 2011 أقل من عادية، في دولة بيروقراطية يسودها الفساد والرشوة وانحلال القيم المجتمعية، دولة الخوف المحكومة بقانون الطوارئ منذ استيلاء آل الأسد عسكري على السلطة. كنّا عائلة كادحة تقاتل في سبيل الحصول على لقمة عيش شريفة، وعلى تعليم يكفل لها حياة عزيزة رغيدة، لكن هيهات.
250 مسناً وامرأةً وطفلا تجمعوا في قبو بناء لا تتعدى مساحته 300 م2، يحتمون من القصف المركّز الذي طال جميع الشوارع والحارات، والرعب سيد الموقف. ولأن يوم القيامة لا يأتي كان النظام قد استولى على المزيد من الأحياء وحشر السكّان في بضعة أحياء قليلة وسط شرقي مدينة حلب. آلمني ذلك الشعور، شعور الوحدة والبرد عندما كنت أستيقظ السّاعة الثالثة ليلاً على ضجيج الشارع وأنا أحسب أنّ النظام وصل حيث أقيم. لكنني -لفجيعتي-أدركت لاحقاً أنها عائلات مكوّنة من النساء والأطفال تحزم حقائبها هرباً من الموت قصفاً أو ذبحاً إلى مناطق سيطرة النظام، عندها كنت أحتضن عائلتي ونفسي وأنام ربما إلى غد لا يأتي.
يا لبؤس الناس!، وحصار الأسئلة الخانق يرهق عقولنا ويستنزف أرواحنا: هل سننجو؟ متى تنتهي هذه المعاناة وينتهي هذا الكابوس؟ أم سنحاصر ونقتل جميعا؟ وهل سأقتل أنا أولا أم أبنائي؟ بمن سيبدؤون الذبح؟ بطفلتي الصغيرة التي لم تبلغ عامها الرابع أم بابني الأكبر ذو العشرة عوام ؟! رحماك يا رب.
كان المشفى الميداني الوحيد يغص بالجرحى والشهداء، أوجعتني أنّاتهم التي لاحقتني في الغرف والممرّات وحتى عند باب المشفى كنت أحاول أن أقدم بعض الدّعم في مجال الإسعاف النفسي، وهناك رأيت أطفالاً يصرخون ألما وهم في حالة هيستيرية مرعبة تدمي القلب، هنا فردة حذاء لطفل ما وهناك ربطة شعر ملطخة بالدماء لطفلة ربما حاولت أمها أن تقنعها بأنهم ذاهبون لزيارة الجدّ والجدّة فذهبت وتركتها وحيدة على مذبحها. وهنا طفلة فقئت عيناها وهي تحاول النظر للنور، هنا امرأة حامل أجهضت جنينها من هول المشهد، وكأنه يوم القيامة! لا أحد يشعر بأحد، لم يعد باستطاعة أحد تحمل المزيد من الألم، تتبلد المشاعر ولا طاقة نجاة.
أعود للملجأ بحثاً عن سكينة تأتيك أصوات.. مالك وهذه الكبرياء العنيدة !!سنموت جميعاً.. ثم يأتيك صوت آخر داخلي بأن أحداً ما سينجو ليروي للعالم قصة وجعنا الأخير، هنا تقف أمامي امرأة مسنة وتنظر في عينيّ كأنها تود أن تُودِعَني أحفادها الذين تجمعهم حولها وهي تحاول تسليتهم كيلا يشعروا بالوقت والجوع. أمسك هاتفي الذي لا يعمل وأتظاهر بأنني أتحدث مع أحدهم خارج البلاد وأبدأ بالحديث بلغة أجنبية لأشعرها بأنني على تواصل مع العالم الخارجي وأن هناك الكثير ممن يحاولون مساعدتنا وأن الفرج آتٍ. جميع التدريبات التي حضرتها في الاسعاف النفسي لم تجد نفعاً، كان علي أن أكذب عليها وأعطيها وعوداً كاذبة لتقوى على الاعتناء بأحفادها اليتامى.
عدنا للمنازل وبدأنا بجمع مالدينا من مواد غذائية لنعد الطعام للناس ربما تكون وجبتنا الأخيرة، لذا علينا إعدادها بكل الحب، وبدأنا بتسلية الأطفال نغني نلعب ونصفق، نحاول بث الأمل في نفوسهم ونفوسنا، والسؤال الموجع الذي أراه في عيون أطفالي هل سننجو يا أمي؟. كنت أحاول أن أتجنب النظر إليهم بعمق كيلا أضعف، وهنا يأتيك صاروخ أحمق يقطع علينا خلوتنا ويخترق ضحكات أطفالنا ويحرق الأبنية المحيطة بنا، فيعود الأطفال للصراخ ويعم الرعب والذعر أرجاء المكان، حتى المياه نفذت ولم يعد بمقدورنا اطفاء الحرائق. يا الله ارحمنا وارحم عجزنا وضعفنا.
“وجاء قرار الإجلاء والإقصاء عن بيوتنا” هل عسانا نفرح بأننا سننجو أم نحزن لفراق مدينتنا وتاريخنا وذكرياتنا وأحلامنا؟! كيف لنا أن نفرح! وكيف لنا أن نحزن!
خرجنا للشوارع نحاول أن نلملم جراحنا ونأخذ بعض الأشياء التي ستبقى لنا تذكاراً مما تبقى لنا من أحلامنا. هتفنا هتافاتنا الأخيرة في شوارعنا، صرخنا حتى بُحت حناجرنا لنُسمع جدران الحي بأنّا لانزال هنا.
ذهبنا للمشفى ننتظر خروج الجرحى ونحاول أن نشعرهم بالأمان فوجودنا بقربهم سيمنحهم الأمل وبعض الأمان، هنا شاهدتُ امرأة حاملاً كانت تصرخ وتقول لا أريد أن ألد الآن! كانت تتألم بشدة اقتربت منها لأحاول التخفيف عنها، لا يوجد طبيب لإجراء عملية الولادة لكن على الفريق المتبقي في المشفى انقاذها وانقاذ الجنين. و بدؤوا يستخرجون الجنين بعملية جراحية، وهنا بدأت الدعاء والتوسل بدأت أسقط هذه الحالة على واقع ثورتنا، هذه هي ثورتنا المتروكة سنحاول إنقاذها بإنقاذ الجنين، لكننا قلّة وتنقصنا الخبرة! يا لله هل ستنجو؟!، نظرتُ للممرضين رأيت في عيونهم وتفانيهم الأمل، شُحنت بالقوة وتسلل التفاؤل لقلبي فجأة، نعم سننتصر وستولد ثورتنا من جديد .. تدفقت الدماء في عروقي فرحاً بولادة من الخاصرة، لكنها كانت ولادة عاثرة، فقد ولد طفل مشوه وتوفى في ذات اللحظة.
ركضت في سرداب المشفى وبدأت بالصراخ” الشعب يريد اسقاط النظام، الشعب يريد اسقاط النظام”، فقاطعني صوت صديقي محمود قائلاً لم يعد بإمكاننا الأنتظار هيا لنعيد تنظيف وتجهيز المشفى فقد أُحرِقت الباصات، وفي نفس اللحظة صعدت روح جريح في غرفة العناية كان ينتظر النجاة.
كلما شعرت باليأس نظرت لوجوه رفاقي “حمزة، وعد، محمود، أبو البراءين، ميلاد، نبيل، أم إبراهيم، علا، أحمد، حبق”، زوجي وأولادي جميعنا كنّا نتظاهر بالقوة والتماسك وما أن ينهار أحدنا نسعى جميعنا لتقويته.
عدنا للشوارع وكتبنا على الجدران قصصنا ورسائلنا. كتبنا وصيتنا واعتذارنا لشوارع مدينتنا فلم يعد بوسعنا المقاومة والبقاء. كتبنا على الأبنية المهدمة قصص عائلات ماتت ودفنت مع أحلامها و دون أن نستطيع حتى إخراجهم و مواراتهم في مثواهم الأخير.
هنا حبيبان يلتقطان الصور، وهنا جندي فقد ساقه في معارك الدفاع يودع ساقه المدفونة يرغب بأخذها معه لتعينه على الاستمرار.. مَن قال أنّ العجز في بتر الأطراف!، وهنا أم تودع قبر ابنها، وهنا أخ يبكي على قبر أخيه يحاول معانقته والتسلل إليه من خلال التراب ليقبل جبينه ويعتذر له ويطلب منه السماح، حملت معي من كل قبر حفنة تراب لأتذكر دوماً حقي الشرعي في العودة.
واصلت التجول في جميع الشوارع حاولت أن أودعها جميعها وأحفظ صورها الأخيرة، دخلت مدرستي الفارغة الساكنة الباردة قبلت جدرانها ومقبض الباب والمقاعد، تحدثت مع طلابي وتخيلتهم معي في نفس الصفوف، اعتذرت لهم لأنني لطالما حدثتهم عن التمسك بالأرض وعدم التفريط بها ولكنني فشلت هذه المرة، لم أحرق المدرسة بل تركتها كما هي لتبقى رائحة الطلاب تملأ المكان للمالكين الجدد لتبعث فيهم الاصرار وتشعرهم بتضحية أبناء جيلهم هنا على مر أربعة أعوام!، كتبت على السبورة قصص أطفال رحلوا وهم على مقاعد الدراسة أو في طريق العودة! رحلوا بدون ذنب رحلوا ولم يعرفوا اليأس يوما بل كانوا منارة أمل لنا.
وعاد التفاوض والإجلاء من جديد ليعلن نهاية الشوط الأخير. تجمّعنا في منزل مهجور ومقصوف عند نقطة الخروج. البرد قارس والثلوج تتساقط. طوال عمري أنتظر تساقط الثلوج وأرى فيها متعة ونقاء وسروراً، هذه المرة كان كئيباً موحشاً مقيتاً. ومنذ ذلك اليوم لم أعد أشعر ببرودة الشتاء وحلاوة الثلج.
خرجنا مع آخر دفعة الساعة الخامسة صباحا في الثالث والعشرين من شهركانون الأول بعد أن اُستُنزفنا جميعاً، حتى دموعنا اُستنزفت، وطوينا وراءنا سنين أوجاعنا وعذاباتنا الطويلة، فما أصعب أن تخرج من مدينتك التي ولدت وقضيت عمراً فيها على يد محتل روسي فتصبح أنت الغريب وهو صاحب الأرض! نعم خرجنا من حلب! بعد معاناة أكثر من ست سنوات من الاعتقال والتعذيب والقصف والحصار..
هُجّرنا قسرياً ولم نخرج بإرادتنا، وما أن وصلنا لأول نقطة محررة تساقطت أوراقنا وذبلنا، فعرفت حينها لماذا تموت الأزهار باكراً!
خرجنا لمدينة إدلب وبدأت رحلة التهجير والتشتت والفراق. لم يكن فقط فراق الأرض يقتلنا بل وفراق الأحبة ورفاق الدرب، كلٌ مضى في طريقه يبحث عن نقطة البداية! حالة انهيار كامل في نفوسنا، اضطراب مابعد الصدمة واكتئاب استمر معنا حتى يومنا هذا. تغيير جذري في حياتنا، ثقافة جديدة، انخراط بشوارع وأناس لم نألفهم من قبل، حالة انكسار مع مشاهدة حفلات النظام وفرحه باحتلال بيوتنا وشوارعنا و قبور شهدائنا.
إلى اليوم أسأل نفسي: تُرى هل سنعود يوماً إليها نحتفل بنيلنا حريتنا وأرضنا، أم كُتب علينا الفراق الأبدي مادام هذا الحاكم على كرسيه؟!
سنرجع، حتى لايضيع حقّ من ضحى وهُجّر، سنرجع إليها لأنّ لنا بها بيت وشجرة وأحلام وشريط ذكريات وماضٍ ومستقبل “وجذور تستعصي على القلع”.
سنرجع، لأنّ لنا بها حقّ، لأنّ هذه الأرض إرثنا وإرث أجدادنا وليست مزرعة لآل الأسد وإلا سنبقى مهجرين مدى الحياة.
إليكم ياأبنائي.. ويا أبناء أبنائي كتبتُ لكم قصتنا كي تقرؤها بعد عام..مئة عام..
ولكن.. لا تنسوا.. لا تغفروا.. ولا تسامحوا..
وإن دار الزمن دورته سأكون ماكنت وسأفعل مافعلت..
عفراء هاشم
- صورة الغلاف: تجمع أهالي حلب قبل الخروج بباصات التهجير عند معبر الراموسة. معتز خطاب – إعلامي.