موعد صلاة الظهر … أجلس في مكتبي في إحدى مؤسسات الدولة، أسمع أصوات تكبير… نظرت من النافذة لأجد سيارة تتوقف أمام محلات سوق الناعورة، يترجل منها أهل الشهيد حاملين جثمان شهيدهم، بلا شعور أغادر مكتبي لأشاركهم التشييع؛ وهل من شرف أعلى من هذا الشرف؟ وهل من مشاركة أسمى من هذه المشاركة؟
لم أتوقع أن تتوافد مواكب الشهداء إلى الجامع الكبير ولم أحلم أن يجتمع هذا العدد من أهالي حمص الكرام، شعور غريب يسود؛ إنه الحزن إذا امتزج بالخوف؛ انه الدم الذي يغلي في العروق … شعور ساد للحظات، لحظات قليلة وبعدها هبّ الجميع بلا استثناء وكان لسان الحال يقول للشعب: أغلقوا المحلات وانضموا ….. أغلق محلك وناد للحرية.
لا بد من أن تكون الثورة وتكريم الشهداء خيار العقلاء، لم أفكر للحظة ماهي نتيجة قراري بالمغادرة والمشاركة في التشييع، اتضح لاحقاً أن النتيجة كانت تقارير مخابراتية حقيرة من أغلب المرتزقة، ممن ارتهنوا لآل الأسد، كانت بداية النهاية لحياة الذل والهوان، كانت لحظة الروح النقية والتطلع للحرية، توافدت الحشود، اختلطت المشاعر، حزناً وألماً على الشهداء، فرحاً وسعادةً بهذا الجمع، رُصّت الصفوف و وصلت الجموع إلى شارع الأربعين مقابل بناء المهندسين، كانت كافة الشوارع الفرعية ممتلئة، الشيوخ مجتمعون في المسجد؛ خرج الشهداء وكأنهم قادة حمص، الجموع وراءهم، الأوجه يملؤها الألم والحقد والثأر، عالجنة رايحين شهداء بالملايين، الهتاف الأكثر دقة في وصف حالنا، كانت أرواحنا تطير، لأنها تنظر لسماء الحرية ورضى رب العالمين، وعند تقاطع الساعة القديمة، كانت جرذان النظام في قيادة الشرطة يختبؤون.
توجه الحشد باتجاه مقبرة الكتيب، مررنا بجانب الحزب اللعين في شارع الحميدية، حاولنا أن نمنع بعض المتهورين من التخريب، لتظهر صورتنا الحقيقية، ضاق الشارع وأصبح صدى الأصوات مُبهراً، دموعنا انهمرت وانهمرت وانهمرت، وانا أكتب الآن أحس أنني مازلت حياً، رغم يقيني الدائم أننا أجسادٌ بلا أرواح خارج بلدنا، فلا تستطيع في هذه اللحظة أن تحصي عدد إخوانك، كل هؤلاء إخوتي وأحبتي، هؤلاء أخوة الحرية، أخوة الشجاعة.
وصلنا لمقبرة الكتيب ووارينا شهداءنا الثرى وانتظرنا قليلاً، وأشار البعض إلى أن التجمع سيكون عند الساعة الجديدة، وفي طريق العودة استمر الهتاف، ولكني كنت متعباً وارتأيت أن أعود لمنزلي القريب من الساحة أرتاح لفترة وأعود لاحقاً، جلست في منزلي برهة ثم توجهت بسيارتي في جولة حول الساحة، لم أكن مطمئناً خاصةً عندما كنت أرى الأطفال والنساء، رأيت باصات بيضاء قادمة من طريق مصياف، لا أعلم من هم ولكن في هذه اللحظات بدأت الأخبار تتوافد أن إنذارات الإخلاء بدأت من قبل العصابة، توجهت لمنزلي وماهي إلا دقائق وأصوات الرصاص بدأت، الناس تركض في كل اتجاه، من الواضح أن معظم الأفراد غرباء عن هذه الأحياء التي دخلوها لأنهم تائهون، بلا تردد فتحت باب البناء السفلي، خرجت للبرندة لأدعو الناس للدخول والصعود لمنزلي، غير مكترثٍ بجاري المخبر، هذا واجب ولابد أن نساعد هؤلاء، صعد الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، وبعده المفاجئة، طفل لايتجاوز العشرة أعوام وقف خائفاً أمام الباب، نزلت لأساعده وأحمله، لاحظته حافي إحدى القدمين، جلسنا، وقدمنا ما تيسر لهؤلاء الأخوة الضيوف، لن أنسى نظرة زوجتي مع أول كوب ماء تجهزه للضيوف، لقد فهمت أن هذا درب ومسيرة سنكملها مهما بلغ الثمن وقد أخبرتني حماستها ولهفتها أنها موافقة، كان أحدهم مصاباً إصابة سطحية، لم أسألهم عن أسمائهم أو معلومات عنهم، الطفل كان الوجع الأكبر، لايعلم من أين هو أو أين ممكن أن نجد أهله، مر الوقت طويلاً، والجميع يرغب في معرفة الوضع والاطمئنان على أهله وأقاربه، اتفقنا أن نبقى حتى الصباح ومن ثم أقلُهم على دفعات لأماكن قريبة من منازلهم لأننا لم نأمن من كمائن الأمن وعصابات الأسد، جاء الصباح و كنا نتنقل فرداً فرداً، تجولتُ بسيارتي في ساحة الاعتصام حيث كان موظفو البلدية يعملون على إزالة آثار الزجاج والدماء والرصاص، آثار لن تزول من قلوبنا وعقولنا 18/4/2011 يوم كانت حمص صوتاً وقلباً وعقلاً واحداً يوم نبذت القذارة من صفوفها، يوم العز واللاعودة، ومنذ ذلك اليوم ولآخر يوم في حياتي، مازلت أحلم بالحرية وبناء سوريا التي تليق بشعبها.