عندما نتحدث عن سوريا، التي يعيش فيها الشعب السوري واقعاً من المعاناة الإنسانية والظلم، قضى فيها سنواتٍ طويلةً من النزاع والدمار، تبرز أهمية العدالة ومحاسبة المجرمين الذين تورطوا في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب كمبدأ أساسي في تحقيق السلام والاستقرار والنهوض بسوريا نحو مستقبل أفضل.
وحيث أن إمكانية محاسبة هؤلاء المجرمين المتورطين بجرائم ضد الشعب السوري تعتبر مستحيلةً في سوريا في ظل وجود النظام السوري الذي يسيطر بقبضته الأمنية على المؤسسة القضائية ويستخدمها لمحاسبة معارضيه فقط، فإن فرض عقوبات وتقييدات دولية فعّالة على الأفراد والكيانات التي شاركت في انتهاكات حقوق الإنسان وارتكبت جرائم حرب تعتبر خطوة هامة جداً.
قادت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا مؤخراً، جهوداً دولية لفرض عقوبات على مجموعة من منتهكي حقوق الإنسان حول العالم، شملت عقوباتٍ على ثمانية من أفراد النظام السوري، متهمين بالتورط في الفظائع والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة ضد الشعب السوري، ويشمل ذلك وزراء الحكومة وكبار أفراد القوات المسلحة المشاركين في المحاكم الميدانية العسكرية.
كما قرر الاتحاد الأوروبي في 22 كانون الثاني الحالي إدراج ستة أفراد سوريين وخمس شركات مرتبطة بالنظام السوري وبشكل أكثر تحديداً “بالسيدة الأولى في النظام السوري” أسماء الأسد، في قائمة العقوبات، وهو قرارٌ يُعد الأول من نوعه منذ نيسان من العام الماضي، حيث ركزت هذه العقوبات على دائرة أعمال أسماء الأسد وعلى شركات ثبت تورطها بتهريب البشر من سوريا إلى ليبيا ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبي.
خضعت أسماء الأسد ووالدها فواز الأخرس للعقوبات الأمريكية عام 2020، حيث قادت حملة احتكارات اقتصادية مكنتها من إحكام قبضتها على الاقتصاد من خلال سيطرتها على قطاعات عديدة مثل العقارات والمصارف والاتصالات عبر شركات وهمية أو شخصيات مقربة منها تعمل كواجهة لإدارة إمبراطوريتها المالية. ووصفتها الحكومة الأمريكية بأنها “أسوء المتربحين من الحرب السورية صيتاً”. وفقاً لتقرير نشرته مجلة The Economist في آذار/ 2021.
تم استغلال “الأمانة السورية للتنمية” باعتبارها “منظمة إنسانية” لامتصاص أموال المساعدات الدولية، وتحقيق الثروة الشخصية لأسماء الأسد والمقربين لها، حيث بلغت مساعدات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في دمشق للأمانة بين عامي 2016 و2018، خمسة ملايين وسبعمائة وثمانون ألف دولار، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان وأغلب هذا التمويل يذهب لأسماء الأسد.
إضافة إلى الجانب الإنساني فقد هيمنت “الأمانة السورية” على الاستثمارات الاقتصادية في حلب القديمة وغيرها، إضافة إلى الجوانب التنموية، بل وحتى المشاريع الربحية رغم تعريفها بأنها “مؤسسة غير ربحية”، بل واعتمدت أسماء الأسد إضافةً “للأمانة” على رجال أعمال مقربين منها مقابل امتيازات اقتصادية منحتها لهم من خلال سلطتها وأذرعها الأمنية، مما جعلهم يشكلون ما يشبه المافيا حولها، كل ذلك لزيادة ثروة “السيدة الأولى” و ثروة زوجها الشخصية والتي قدرها تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية بنحو مليار إلى ملياري دولار أمريكي.
شملت العقوبات الأوروبية الأخيرة فراس الأخرس شقيق أسماء، ومحي الدين مهند دباغ ابن عمها، إضافة إلى خمس شركات، كانت أجنحة الشام للطيران هي إحدى هذه الشركات الخمس، بتهمة استخدام رحلاتها للمشاركة في نقل المرتزقة السوريين، وتجارة الأسلحة، وتهريب المخدرات، وغسل الأموال، مما يدعم أنشطة النظام السوري. وباعتبارها شركة الطيران الخاصة الوحيدة في سوريا، تستفيد أجنحة الشام من النظام السوري وتقدم الدعم له. في الماضي، واجهت أجنحة الشام تصنيفات أمريكية سابقة بتهمة نقل الأسلحة والمعدات للنظام السوري، واتهامات بنقل المرتزقة الروس إلى سوريا، وإدانة دورها في الاتجار بالبشر. وفي عام 2022، تم إدراج أجنحة شام في القائمة السوداء من قبل الاتحاد الأوروبي بتهمة الاتجار بالمهاجرين إلى بيلاروسيا، ثم شطب الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف أجنحة تشام بعد بضعة أشهر حين أوقفت الشركة عملياتها في بيلاروسيا.
غير أنه ومن المستغرب جداً أن تشارك “أجنحة الشام” المشمولة بالعقوبات الأوروبية الأخيرة والأمريكية سابقاً وبعد ثلاثة أيام فقط من صدور العقوبات بحقها، في معرض (فيتور 2024 السياحي الدولي)، الذي انطلق في العاصمة الإسبانية مدريد، وهذا ما يؤكد نجاح مساعي الشخصيات والكيانات الواقعة تحت هذه العقوبات من التهرب والالتفاف عليها، سواءً باستخدام أسماء مستعارة أو بتغيير أسماء الكيانات أو بطرقٍ أخرى، وهذا ما بينته الرابطة السورية لكرامة المواطن عندما سلطت الضوء على الدور الذي تلعبه قبرص في تسهيل عمليات تهريب الأموال لصالح النظام السوري وأطراف أخرى رغم العقوبات الصارمة المفروضة عليه من واشنطن.
إن الحلول الجزئية للأزمة السورية تُظهر دائماً ضعفها وعدم كفايتها للخروج من الواقع المؤلم، ولا بد من العمل على تحقيق حل شامل مستدام يخرج سوريا من أتون الحرب والنزاعات ويحقق العدالة والمساءلة للمجرمين ويعزز ثقة المهجرين بالمجتمع الدولي، وهنا نؤكد أن الحل الوحيد للأزمة السورية وبناء مستقبل مستدام للبلاد يكمن في إيجاد حل سياسي شامل يساهم في تحقيق البيئة الآمنة في سوريا، تحقق إقامة نظام يستند إلى قيم العدالة وحقوق الإنسان، وتسمح بعودة المهجرين السوريين عودة آمنة وطوعية وكريمة إلى ديارهم، وهذا يتطلب التعاون الدولي والتزام الأطراف المعنية بتنفيذ القرارات والالتزامات الواقعة عليها.