لا يمكن وصف الواقع الذي يعيشه السوريون في سوريا، فرغم الظروف المأساوية التي يعاني منها السوريون بسبب النزوح سواءً في الداخل أو اللجوء إلى دول اللجوء، إلا أنهم لا يزالون غير مقتنعين بالعودة.
يعود السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى حقيقة أن الظروف والأسباب التي أجبرتهم على مغادرة منازلهم في الأصل لا تزال موجودةً اليوم، ولا يزال النظام السوري يستخدم سياسة الإجرام والقمع ضد السوريين في المناطق التي يسيطر عليها، بينما حددت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عتبة الحماية الأولى “حدوث انخفاض كبير ودائم في الأعمال العدائية” كعتبة تشير إلى سلامة عودة اللاجئين النازحين.
إن الادعاء بأن الانخفاض في عدد الوفيات المبلغ عنها يومياً، مقارنة بذروة التدمير في السنوات السابقة، هو مؤشر على انخفاض الأعمال العدائية، ليس بأي حال من الأحوال مؤشراً على ما يسمى بتحسن الوضع الأمني في البلاد، حيث إن مئات الآلاف من السوريين إما محتجزون بشكل تعسفي أو مختفون قسراً.
بينما تتواصل الاعتقالات التعسفية والقتل والاختفاء القسري في مناطق مختلفة من البلاد، وهو ما أجبر ملايين السوريين على الفرار من البلاد خلال السنوات الماضية، فإن موجات الفرار نفسها بحثاً عن ملاذ آمن لا تزال مستمرة حتى اليوم.
ومن المهم الإشارة إلى أن الأعمال العدائية والحربية لا تعني الاشتباكات العسكرية كالقصف والتفجير والقتال وحسب، بل تشمل أيضاً عمليات الاعتقال التعسفية والاختفاء القسريّ والإعدامات الميدانية وعمليات الاغتيال والتعذيب المستمرة لعشرات الآلاف من الأبرياء الذين يحتجزهم النظام. ويجب الاخذ بعين الاعتبار تغير التركيبة السكانية في سوريا مع تهجير أكثر من 13 مليون سوري على مدى سنوات النزاع.
بلغ عدد الأعمال العدائية والانتهاكات التي رصدتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان وفريق الرصد في الرابطة السورية لكرامة المواطن في مناطق سيطرة النظام السوري في عام 2022 أكثر من 1778 انتهاكاً بحق المدنيين، في حين بلغ العدد في مناطق سيطرة قسد 1149 انتهاكاً، ووصل العدد في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة إلى 690 انتهاكاً.
وتشير الاحصاءات عام 2022 إلى أن النظام السوري هو الفاعل الرئيسي للأعمال العدائية ولانتهاكات سواءً في المناطق الخاضعة لسيطرته أو باقي المناطق السورية. وبلغ عدد القتلى 1057 قتيلاً، كان أكثرها بنسبة 21% في محافظة حلب ثم 19% في محافظة درعا. من بين أعداد القتلى أكثر من 251 طفلاً و94 امرأة. كما بلغ عدد المعتقلين أكثر من 2221، بنسبة 26.5% في محافظة حلب، و13.7% في ريف دمشق، من بين هؤلاء المعتقلين 148 طفلاً و457 امرأةً.
عندما يتم وضع نتائج بحث الرابطة السورية لكرامة المواطن في سياق المعايير الخاصة بالمفوضية – عتبات الحماية – نرى أن الغالبية العظمى لم يتم الوفاء بها، مما يرسم صورة رهيبةً للاجئين أو النازحين داخلياً المجبرين على العودة قبل أن يتحقق الحد الأدنى من الشروط.
وتؤكد هذه النتائج والاحصائيات أن العتبة الأولى “حدوث انخفاض كبير ودائم في الأعمال العدائية”، التي تعتبر من أهم عتبات الحماية في الاستراتيجية الشاملة للحماية والحلول CPSS للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين غير محققة حتى الآن في سوريا، بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على النزاع.
ومع استمرار الأعمال العدائية لا يمكن ضمان عودة آمنة وطوعية وكريمة للمهجرين إلا بعد إيقاف كل الانتهاكات ضد الشعب السوري، وأيضاً من خلال حلٍّ سياسي شامل، وبضماناتٍ دولية واقعية، وبعد محاسبة المجرمين على كل جرائمهم في محاكم دولية عادلة.
تتحمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بحسب الوثيقة التي أصدرتها للاستراتيجية الشاملة للحماية والحلول CPSS مسؤولية جمع هذا النوع من المعلومات والقيام بالمراقبة وتقديم التقارير حول الحدود الدنيا للحماية بشكل دوري إلى جميع الأطراف المعنية بما فيها النازحين السوريين والدول المضيفة.
يجب توفير معلومات دقيقة ومفصلة في أوانها إلى منظمات المجتمع المدني واللاجئين فيما يتعلق بالحدود الدنيا للحماية والظروف في مناطق العودة وتجارب العائدين من اللاجئين والنازحين داخلياً من خلال منصات عامة لكي يتمكنوا من الوصول إليها بأنفسهم حينما يدرسون قرار العودة. فلا يمكن اعتبار العودة مستنيرة أو طوعية ما لم يأت ذلك الوقت الذي يتم فيه توفير هذه المعلومات.
وتجدر الإشارة إلى أن محاولات التطبيع مع النظام السوري وعلى رأسه بشار الأسد والتي بدأت في عام 2023 لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع رصيد النظام السوري من الأعمال العدائية لعام 2022. وبالتالي، يجب أن يتم استناداً إلى الإحصائيات التي قدمناها، إدانة كل محاولات التطبيع ومنعها.
في الختام، يجب التأكيد على أن العتبة الأولى للحماية، وهي “حدوث انخفاض كبير ودائم في الأعمال العدائية”، لا تعني أن حدوث انخفاض في الأعمال العدائية يؤدي إلى زوال الانتهاكات. إنه من الضروري التذكير بأن السلطة الأمنية، التي كانت وما زالت تحمل السيف المسلط على رقاب السوريين، مرتبطة بشكل وثيق بحدوث الانتهاكات. فالانتهاك الواحد يمثل أداة أمنية تستخدمها السلطة للضغط على الشعب السوري.
لذا لا يمكن تحقيق بيئة آمنة إلا بعد تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. وإن الحل السياسي الشامل والمستدام والتزام المجتمع الدولي بتحقيق العدالة هما المفتاح الرئيسي لتحقيق عودة طوعية وآمنة وكريمة للنازحين واللاجئين السوريين.