الكاتب: معاذ بويضاني

تمر في هذه الأيام على أهالي دوما خاصة والسوريين عامة الذكرى الثالثة لتهجير دوما الكارثي والأليم، فبعد الحصار المطبق الذي استمر لسنوات وعشرات المحاولات التي قام بها النظام لاقتحام المنطقة وإنهاء وجود المعارضة، بدأ النظام السوري بدعم مطلق من القوات الروسية بحملة عسكرية استمرت لقرابة الشهرين، نجحت فيها القوات الروسية وقوات النظام بقضم أجزاء كبيرة من الغوطة الشرقية، والتي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة، وقامت بتهجير أهلها إلى مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري.

وكانت البداية بقطاع حرستا ثم القطاع الأوسط وأجزاء من ريف دوما، فيما بقي بحوزة المعارضة جزء صغير من مدينة دوما، عاصمة الغوطة الشرقية والحاضرة الأهم في الريف الدمشقي، فقد حاصرت قوات النظام في مساحة لا تزيد عن ٢ كم مربع من مدينة دوما ما يزيد عن ١٥٠ ألف نسمة سكنوا أقبية المدينة وملاجئها. جرت على أثر الحصار مفاوضات بين ضباط روس وممثلي الفصائل الموجودة في دوما بغرض إيقاف العمليات العسكرية و القصف.

ولكن سرعان ما فشلت المفاوضات مع الجانب الروسي،  ليفاجَأَ سكان المدينة الذين كانوا يعيشون فرحة أول جمعة آمنة بعد شهور من القصف على الغوطة عامة ودوما خاصة والذي تصاعد في الشهرين الأخيرين بشكلٍ غير مسبوق، بمباغتة المدينة بقصفٍ شديد، ففي عصر يوم الجمعة الموافق لـ 6/4/2018، وبعد وقتٍ قليل من عودة المصلين من صلاة الجمعة، وبينما كان أطفال المدينة ينتشرون في شوارعها وأزقتها بعد أيام طويلة حبسوا خلالها في عتمة الأقبية والملاجئ التي أمها آلاف الناس خوفاً على حياتهم، باشرت القوات الروسية وقوات الأسد هجومها على المدينة، فلم توفر أي نوع من أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة إلا واستخدمته لقصف المدنيين الآمنين بدءاً من القصف بالصواريخ، ثم إمطار المدينة بقذائف راجمات سميرتش وقذائف الهاون ومدفعية الميدان مروراً بإلقاء البراميل المتفجرة، وليس نهاية بتوجيه معظم المطارات العسكرية في سوريا بما فيها مطار حميميم لمعركة اجتياح المدينة.

كان المشهد الأليم يومها مختزلاً بأطنان من حمم القذائف والصواريخ التي تسكب فوق رؤوس المدنيين كورقة ضغط أخيرة لإخضاع المدينة ولو كلف ذلك قتل الآلاف من المدنيين. فيما كانت الأمهات تحث الخطى لإنقاذ فلذات أكبادها أو لم أشلاء من استشهد منهم، أصوات استغاثات الناس امتزجت بأصوات القذائف وهدير الطائرات، مشهد كأنه القيامة، يركض الناس لا يلوون على شيء. كان السكان يرقبون بحرقة مشاهد تدمير وحرق ممتلكاتهم دون أن يبادروا إلى إطفاء الحرائق.

لم يكن للناس إلا الدعاء والتضرع لله أن يحفظ ما تبقى من أرواح وأن يحيل هذا العدوان برداً وسلاماً على أهل المدينة. كان الناس يتساءلون ماذا يريد رأس النظام المجرم من المدينة وأي انتصار يجنيه على أنقاضها وأكوام جثث أبنائها وبناتها.

استمر العدوان ليومين بدون أي توقف ولا للحظة واحدة، حجب غبار الصواريخ والقذائف والبراميل المتفجرة ضوء شمس اليوم الثاني من هذا العدوان عن أعين الناس لتغيب شمس ذلك اليوم ويتوقف العدوان نسبياً وتهدأ أصوات القذائف، و يتفاجأ السكان في تمام الساعة ٨ من مساء يوم ٧/٤/٢٠١٨ بسقوط صاروخين يحملان رؤوساً كيماويةً على منطقتين سكنيتين في المدينة انفجر أحدهما دون الآخر.

سقط العشرات من النساء والأطفال والشيوخ  بالسلاح الكيماوي ولم تسعف الحيلة من بقي على قيد الحياة من المدنيين لمغادرة مكان سقوط الصاروخين. فيما هدد النظام المدنيين بوجود ١٠٠٠ صاروخ كيماوي سقط منها اثنان والبقية على أهبة الاستعداد لمعاودة القصف.

ويأتي هذا التهديد فيستنزف ما بقي من قدرة لدى الناس على الصمود والمقاومة. و تتوالى التهديدات الصادرة عن القيادة الميدانية للقوات الروسية بأن القصف سيطال الأطفال والنساء والشيوخ قبل الشباب والمقاتلين، إضافة إلى تلك التي أطلقها المئات من مؤيدي الأسد والتي تعد بشي وحرق أطفال الغوطة. لتتوج القيادة الروسية إلى جانب النظام كمجرمة حرب وليختتم العدوان في صبيحة اليوم التالي ٨/٤/٢٠١٨ باستسلام المدينة وخروج الآلاف من أبنائها وبناتها وضيوفها إلى الشمال السوري في مشهد تهجير قسري جديد تخرجه روسيا، وتشرف فيه على اقتلاع المدنيين من بيوتهم وأراضيهم وترك من بقي عرضة لاستباحة النظام لحرياتهم وكراماتهم وملكياتهم وملكيات من تهجر بعدما نكثت روسيا بوعودها التي قطعتها بضمان أمن وسلامة من بقي.

واليوم يكابد آلاف المهجرين من مدينة دوما آلام الهجرة والنزوح، إلا أنهم يرفضون كل عروض النظام لعودة منزوعة الضمانات بتحقيق بيئة آمنة تمهد لعودة كريمة وطوعية، ويحذوهم أملٌ ،يعمل الكثيرون منهم لبلوغه، بأن تتم محاسبة روسيا والنظام على جرائمهما باستهداف المدنيين، وأن يقوم المجتمع الدولي بمحاسبة روسيا على تواطئها مع النظام السوري على قصف المدنيين بالسلاح الكيماوي مجدداً. على الرغم من التعهد الذي قطعته روسيا للمجتمع الدولي بنزع سلاح النظام الكيماوي بموجب القرار الدولي ٢١١٨ الذي أعقب العدوان الكيماوي على الغوطة صيف عام ٢٠١٣، واستمرار روسيا والنظام بطمس معالم الجريمة والدفع بشهود الزور ترغيباً أو ترهيباً. وفي تورطها والنظام بتهجير آلاف الناس قسراً من أرضهم والعبث بملكياتهم. في الوقت الذي تستمر فيه روسيا بدعم النظام المجرم الذي يتناقض استمرار وجوده مع وجود أي فرصة لتحقيق بيئة آمنة ومحايدة  ملائمة لعودة كريمة آمنة وطوعية ومستدامة لمهجري المدينة إلى بيوتهم وملكياتهم فضلاً عن تعويضهم وجبر ضررهم.

  • صورة الغلاف: تهجير مدينة دوما (المصدر: السوشال ميديا)